دليل على انه ثبت ولم يفر. وثبت يوم حنين في تسعة من اهله
ورهطه الادنين، وقد فر المسلمون كلهم‏والنفر التسعة
محدقون به، العباس آخذ بحكمة((905)) بغلته، وعلي بين
يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلته‏يمنة ويسرة، وقد انهزم
المهاجرون والانصار، وكلما فروا اقدم هو(ص) وصمم مستقدما
يلقى السيوف‏والنبال بنحره وصدره، ثم اخذ كفا من البطحاء
وحصب‏المشركين وقال: «شاهت الوجوه‏»،والخبرالمشهور عن
علي‏وهو اشجع البشر: «كن ا اذا اشتد الباس وحمي الوطيس
اتقينا برسول اللّه (ص)ولذنا به‏». فكيف يقول الجاحظ: انه ما
خاض الحروب ولا خالط الصفوف؟ واي فرية اعظم من فرية
من‏نسب رسول اللّه (ص) الى الاحجام واعتزال الحرب؟ ثم اي
مناسبة بين ابي بكر ورسول اللّه في هذا المعنى‏ليقيسه وينسبه
الى رسول‏اللّه(ص) صاحب الجيش والدعوة ورئيس الاسلام
والملة، والملحوظ بين اصحابه‏واعدائه بالسيادة،واليه الايماء
والاشارة، وهو الذي احنق قريشا والعرب، وورى اكبادهم
بالبراءة من‏آلهتهم، وعيب دينهم وتضليل اسلافهم، ثم وترهم
فيما بعد بقتل رؤسائهم واكابرهم، وحق لمثله
اذاتنحى‏عن‏الحرب واعتزلها ان يتنحى ويعتزل، لان ذلك شان
الملوك والرؤساء اذ كان الجيش منوطا بهم‏وببقائهم، فمتى
هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلم الملك امكن ان يبقى
عليه ملكه، وان عطب جيشه‏فانه‏يستجدجيشا آخر،ولذلك
نهى‏الحكماء ان يباشر الملك‏الحرب بنفسه، وخط اوا الاسكندر
لما بارزفوسر ملك الهند ونسبوه الى مجانبة الحكمة ومفارقة
الصواب والحزم، فليقل لنا الجاحظ: اي مدخل لابي‏بكر في هذا
المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من اعداء الاسلام ليقصده
بالقتل؟ وهل هو الا واحد من عرض‏المهاجرين حكمه حكم عبد
الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما؟ بل كان عثمان
اكثر منه صيتا،واشرف منه مركبا، والعيون اليه اطمح، والعدو
عليه احنق واكلب. ولو قتل ابو بكر في بعض تلك المعارك‏هل
كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا؟ او يحدث فيه وهنا؟ او يخاف
على الملة لو قتل ابو بكر في بعض تلك‏الحروب ان تندرس
وتعفى آثارها وتنطمس منارها؟ ليقول الجاحظ: ان ابابكر كان
حكمه حكم رسول اللّه(ص) في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ
باللّه من الخذلان. وقد علم العقلاء كلهم‏ممن‏له
بالسيرمعرفة‏وبالاثار والاخبار
ممارسة‏حال‏حروب‏رسول‏اللّه(ص) كيف كانت، وحاله عليه
الصلاة والسلام فيهاكيف كان، ووقوفه حيث وقف وحربه حيث
حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس، وان وقوفه (ص)وقوف
رئاسة وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف امور اصحابه ويحرس
صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من‏ورائهم وتخلفه عن التقدم في
اوائلهم، لانهم متى علموا انه في اخراهم اطمانت قلوبهم ولم
تتعلق بامره‏نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا
يكون لهم فئة يلجاون اليها وظهر يرجعون اليه، ويعلمون‏انه
متى كان خلفهم تفقد امورهم وعلم مواقفهم وآوى كل انسان
مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في‏الكر والحملة،
فكان وقوفه حيث وقف اصلح لامرهم، واحمى‏واحرس
لبيضتهم، ولانه المطلوب من بينهم،اذ هو مدبر امورهم ووالي
جماعتهم، الا ترون ان موقف صاحب اللواء موقف شريف؟ وان
صلاح الحرب‏في وقوفه، وان فضيلته في ترك التقدم في اكثر
حالاته، فللرئيس حالات:
الاولى : حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة وردا وعدة،
وليتولى تدبير الحرب ويعرف مواضع‏الخلل.
والحالة الثانية: يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف
ويشجع الناكس.
وحالة ثالثة: وهي اذا اصطدم الفيلقان، وتكافح السيفان، اعتمد
ما يقتضيه الحال من الوقوف حيث‏يستصلح، او من مباشرة
الحرب بنفسه فانها آخر المنازل، وفيها تظهر شجاعة الشجاع
النجدوفسالة((906))الجبان المموه.
فاين مقام الرئاسة العظمى لرسول اللّه (ص)؟ واين منزلة ابي
بكر ليسوي بين المنزلتين، ويناسب بين‏الحالتين؟
ولو كان ابو بكر شريكا لرسول اللّه في الرسالة وممنوحا من اللّه
بفضيلة النبوة، وكانت قريش والعرب تطلبه‏كما تطلب محمدا
(ص) لكان للجاحظ ان يقول ذلك، فاما وحاله حاله، وهو اضعف
المسلمين جنانا، واقلهم‏عند العرب ترة((907))، لم يرم قط
بسهم، ولا سل سيفا، ولا اراق دما، وهو احد الاتباع، غير مشهور
ولامعروف، ولا طالب ولا مطلوب، فكيف يجوز ان يجعل مقامه
ومنزلته مقام رسول اللّه (ص) ومنزلته؟ ولقدخرج ابنه
عبدالرحمن مع المشركين يوم احد فرآه ابو بكر، فقام مغيظا
عليه، فسل من السيف مقدار اصبع‏يروم البروز اليه فقال له
رسول اللّه (ص):«يا ابابكر شم سيفك وامتعنا بنفسك‏». ولم يقل
له: «وامتعنابنفسك‏»، الا لعلمه بانه ليس اهلا للحرب وملاقاة
الرجال وانه لو بارز لقتل.
وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الاقران
وقتل ابطال الشرك؟ وهل قامت عمدالاسلام الا على ذلك؟
وهل ثبت الدين واستقر الا بذلك؟ اتراه لم يسمع قول اللّه تعالى
(ان اللّه يحب الذين‏يقاتلون في سبيله صفا كانهم بنيان
مرصوص)((908))؟ والمحبة من اللّه تعالى هي ارادة الثواب،
فكل من كان‏اشد ثبوتا في هذا الصف واعظم قتالا، كان احب
الى اللّه، ومعنى الافضل هو الاكثر ثوابا،فعلي(ع) اذ هواحب
المسلمين الى اللّه لانه اثبتهم قدما في الصف المرصوص، لم
يفر قط باجماع الامة، ولا بارزه قرن الاقتله، اوتراه لم يسمع
قول اللّه تعالى: (وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين اجرا
عظيما)((909))؟ وقوله: (ان اللّهاشترى من المؤمنين انفسهم
واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون
ويقتلون وعدا عليه حقافي التوراة والانجيل والقرآن)((910))؟
ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء: (ومن اوفى بعهده من
اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك‏هو الفوز العظ
يم)((911))، وقال اللّه تعالى: (ذلك بانهم لا يصيبهم ظما ولا
نصب ولا مخمصة في سبيل اللّهولايطؤون موط ئا يغيظ الكفار
ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح)((912))،
فمواقف الناس في الجهادعلى احوال، وبعضهم في ذلك افضل
من بعض، فمن دلف الى الاقران واستقبل السيوف والاسنة،
كان اثقل‏على اكتاف الاعداء لشدة نكايته فيهم، ممن وقف في
المعركة واعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة،واعان
ولم يقدم، الا انه بحيث تناله السهام والنبل اعظم عناء، وافضل
ممن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان‏الضعيف والجبان
يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وان ذلك
يشاكل فعل النبي (ص)، لكان‏اوفر الناس حظا في الرئاسة
واشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت. وان بطل فضل علي‏في
الجهاد، لان النبي(ص) كان اقلهم قتالا كما زعم الجاحظ
ليبطلن على هذا القياس فضل ابي بكر في الانفاق،لان
رسول‏اللّه (ص) كان اقلهم مالا، وانت اذا تاملت امر العرب
وقريش، ونظرت السير، وقرات الاخبار، عرفت انهاتطلب
محمدا (ص) وتقصد قصده، وتروم قتله، فان اعجزها وفاتها
طلبت عليا وارادت قتله، لانه‏كان‏اشبههم بالرسول حالا،
واقربهم منه قربا، واشدهم عنه دفعا، وانهم متى‏قصدوا عليا
فقتلوه اضعفوا امرمحمد (ص) وكسروا شوكته، اذ كان اعلى
من ينصره في الباس والقوة والشجاعة والنجدة
والاقدام‏والبسالة. الا ترى الى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر وقد
خرج هو واخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فاخرج‏اليهم الرسول
نفرا من الانصار، فاستنسبوهم فانتسبوا لهم، فقالوا: ارجعوا
الى‏قومكم، ثم نادوا: يا محمداخرج الينا اكفاءنا من قومنا، فقال
النبي(ص) لاهله الادنين: «قوموا يابني هاشم فانصروا حقكم
الذي‏آتاكم اللّه على باطل هؤلاء، قم يا علي قم يا حمزة قم يا
عبيدة‏» الا ترى ما جعلت هند بنت عتبة‏لمن قتله‏يوم احد لانه
اشترك هو وحمزة في قتل ابيها يوم بدر؟ الم تسمع قول هند
ترثي اهلها:
ما كان لي عن عتبة من صبر
ابي وعمي وشقيق صدري((913))
اخي الذي كان كضوء البدر
بهم كسرت يا علي ظهري
وذلك لانه قتل اخاها الوليد بن عتبة، وشرك في قتل ابيها
عتبة، واما عمها شيبة فان حمزة تفرد بقتله.
وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم احد: ان قتلت محمدا
فانت حر، وان قتلت عليا فانت حر، وان‏قتلت حمزة فانت حر.
فقال: اما محمد فسيمنعه اصحابه، واما علي فرجل حذر كثير
الالتفات في الحرب،ولكني ساقتل حمزة. فقعد له‏وزرقه
بالحربة فقتله.
ولما قلنا من مقاربة حال علي في هذا الباب لحال رسول اللّه
(ص) ومناسبتها اياه ما وجدناه في السيروالاخبار، من اشفاق
رسول اللّه (ص) وحذره عليه، ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال
رسول اللّه (ص) يوم‏الخندق، وقد برز علي الى عمرو، ورفع يديه
الى السماء بمحضر من اصحابه: «اللهم انك اخذت مني
حمزة‏يوم احد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم علي عليا، رب لا
تذرني فردا وانت خير الوارثين‏». ولذلك ضن‏به‏عن مبارزة
عمرو حين دعا عمرو الناس الى نفسه مرارا، في كل ها
يحجمون ويقدم علي، فيسال الاذن له‏في البراز حتى قال له
رسول اللّه (ص): «انه عمرو !» فقال: «وانا علي‏». فادناه وقبله
وعممه بعمامته‏وخرج معه خطوات كالمودع له، القلق لحاله،
المنتظر لما يكون منه. ثم لم يزل (ص) رافعا يديه الى
السماءمستقبلا لها بوجهه والمسلمون صموت حوله كانما على
رؤوسهم الطبر، حتى ثارت الغبرة، وسمعوا التكبيرمن تحتها
فعلموا ان عليا قتل عمرا. فكبر رسول اللّه (ص) وكبر المسلمون
تكبيرة سمعها من وراء الخندق‏من عساكر المشركين. ولذلك
قال حذيفة بن اليمان: لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم
الخندق بين‏المسلمين باجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عباس في
قوله تعالى: ( وكفى اللّه المؤمنين القتال)((914))، قال:
بعلي‏بن‏ابي طالب. انتهى.
الغريق يتشب ث بكل حشيش
اعيت القوم شجاعة الخليفة، واضلتهم عن المذاهب، وجعلتهم
في الرونة((915))، واركبتهم على الزحلوقة‏تسف‏بهم تارة وتعل
يهم اخرى، فلم يجدوا مهيعا يوصلهم الى ما يرومون من اثباتها
له مهما وجدوا غضون‏التاريخ خالية عن كل عين واثر يسعهم
الركون اليه في الحجاج لها، فتشبثوا بالتفلسف فيها، فهذا يبني
فلسفة‏العريش، والاخر ينسج نسج العناكيب ويعد ثباته في
موت رسول اللّه (ص) وعدم تضعضعه في تلك الهائلة‏دليلا على
كمال شجاعته. قال القرطبي في تفسيره((916))(4/222) في
سورة آل عمران: 144 عند قوله تعالى:(وما محمد الا رسول قد
خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه‏فلن‏يضر اللّه شى ئا): هذه الاية ادل
دليل على شجاعة الصديق وجراته، فان الشجاعة والجراة
حدهماثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة اعظم من
موت النبي (ص) فظهرت عنده شجاعته وعلمه.وقال الناس:
لم يمت رسول اللّه (ص)، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى
علي، واضطرب الامر فكشفه‏الصديق بهذه الاية حين
قدومه من مسكنه بالسنح((917)).
وهذا الاستدلال اقره الحلبي في سيرته((918)) (3/35) وقال:
لما توفي رسول اللّه(ص) طاشت العقول، فمنهم من‏خبل،
ومنهم من اقعد ولم يطق القيام، ومنهم من اخرس فلم يطق
الكلام، ومنهم من اضنى، وكان عمر(رضي اللّه عنه) ممن
خبل، وكان عثمان (رضي اللّه عنه) ممن اخرس، فكان لا
يستطيع ان يتكلم، وكان‏علي(رضي اللّه عنه) ممن اقعد فلم
يستطع ان يتحرك، واضنى عبداللّه بن انيس فمات كمدا،
وكان اثبتهم ابوبكر الصديق (رضي اللّه عنه) . الى ان قال: قال
القرطبي: وهذا ادل دليل على كمال شجاعة الصديق. الى‏آخره.
قال الاميني : يوهم القرطبي ان في كتاب اللّه العزيز ما يدل
على شجاعة الخليفة وعلمه، وليس فيما جاء به‏اكثر من انه
استدل بالاية الشريفة يوم ذاك على موت رسول اللّه (ص) فاي
صلة لها بشجاعة الرجل؟ !واي قسم فيها من انحاء الدلالة
الثلاثة فضلا عن ان تكون ادل دليل؟ فان يكن هناك شي‏ء من
الدلالة آواين وانى فهو في ثبات جاشه وتمسكه بالاية الكريمة
لا في الاية نفسها.
ثم كيف خفي على الرجل وعلى من تبعه الفرق بين ملكتي
الشجاعة والقسوة؟ وان هذا النسج الذي اوهن‏من بيت
العنكبوت انما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك، فخبلوا
عمر بن الخطاب وحاشاه الخبل‏ تصحيحا لانكاره موت
رسول اللّه (ص) وانه كان من ذلك لقلق كما مر في (ص‏184)،
واقعدوا عليالايهام‏العذر في تخلفه عن البيعة، واخرسوا عثمان
لانه لم ينبس في ذلك الموقف ببنت شفة.
على ان ما جاء به القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون
الخليفة اشجع من رسول اللّه (ص) ايضا ، اذ لم‏يرو عن ابي بكر
في رزية النبي الاعظم اكثر من انه كشف عن وجه النبي وقبله
وهو يبكي وقال: طبت‏حياوميتا ((919))وقد فعل (ص) اكثر
واكثر من هذا في موت عثمان بن مظعون، فانه (ص) انكب
عليه ثلاث‏مرات مرة بعد اخرى وقبله باكيا عليه وعيناه تذرفان
والدموع تسيل على وجنتيه وله شهيق((920))، وشتان‏بين
عثمان بن مظعون وبين سيد البشر روح الخليقة وعلة العوالم
كلها، وشتان بين المصيبتين.
كما يستدعي مقياس الرجل كون عمر بن الخطاب اشجع من
النبي الاقدس لحزنه العظيم في موت زينب‏وبكائه عليها،
وعمر كان يوم ذاك يضرب النسوة الباكيات عليها بالسوط، كما
مر في الجزء السادس(ص‏159)، فضلا عن عدم تاثره بتلك
الرزية.
وعلى هذا الميزان يغدو عثمان بن عفان اشجع من رسول اللّه
(ص) لوجده((921))(ص) لموت احدى بنتيه: رقية‏او ام كلثوم
زوجة عثمان، وبكائه عليها، وعثمان غير متاثر به ولا بانقطاع
صهره من رسول اللّه (ص)، غيرمشغول بذلك عن مقارفة بعض
نسائه في ليلة وفاتها كما في صحيحة انس((922)).
وقبل هذه كلها ما ذكره اعلام القوم في موت ابي بكر من طريق
ابن عمر من قوله: كان سبب موت ابي بكرموت رسول اللّه
(ص)، ما زال جسمه يجري حتى مات. وقوله: كان سبب موته
كمد لحقه على رسول اللّه(ص) مازال يذيبه حتى‏مات. وفي
لفظ القرماني: مازال جسمه ينقص حتى مات.
راجع((923)) مستدرك الحاكم (3/63)، اسد الغابة (3/224)،
صفة الصفوة (1/100)، الرياض النضرة(1/180)، تاريخ الخميس
(2/263) ، حياة الحيوان للدميري (1/49)، الصواعق (ص‏53)،
تاريخ الخلفاءللسيوط‏ي (ص‏55)، اخبار الدول للقرماني هامش
الكامل (1/198)، نزهة المجالس للصفوري (2/197)،مصباح
الظلام للجرداني (2/25).
كان هذا الحديث عزب عن القرطبي والحلبي، فاخذا بهذا
مشفوعا بكلامهما المذكور في شجاعة ابي بكريكون هو شاكلة
عبداللّه بن انيس في موته كمدا على رسول اللّه (ص)، ولم ينبئ
قط خبير بموت احد من‏الصحابة غيرهما بموته (ص)، وهذا
دليل على ضعف قلبهما عند حلول المصائب، فهما اجبن
الصحابة على‏الاطلاق اذا وزنا بميزان القرطبي وفيه عين.
ووراء هذه المغالاة في شجاعة الخليفة وعده اشجع الصحابة ما
عزاه القوم الى ابن مسعود من انه قال: اول‏من اظهر الاسلام
بسيفه محمد (ص) وابو بكر والزبير ابن العوام‏غ((924)). وما
يعزى الى رسول اللّه (ص) من‏انه قال: لولا ابو بكر الصديق
لذهب الاسلام((925)).
قال الاميني : لقد كانت على الابصار غشاوة عن رؤية هذا
السيف الذي كان بيد الخليفة، فلم يؤثر انه تقلده‏يوما، او سله
في كريهة، اوهابه انسان في معمعة، حتى يقرن برسول اللّه
(ص) الذي كان منذ بعث سيفا للّهتعالى مجردا.
ان الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف اللّه مسلول((926))
او يقرن بمثل الزبير الذي عرفته وسيفه الحرب الزبون فشكرته،
وقد سجل التاريخ مواقفه المشهودة، وسجل‏للخليفة يوم خيبر
وامثاله.
وانا لا ادري باي خصلة في الخليفة نيط بقاء الاسلام، ابشجاعته
هذه؟ ام بعلمه الذي عرفت كميته؟ ام‏بماذا؟ فظن خيرا ولا
تسال عن الخبر.
(4) ثبات الخليفة على المبدا
عن ابي سعيد الخدري: ان ابابكر جاء الى رسول اللّه (ص) فقال:
يا رسول اللّه اني مررت بوادي كذا وكذا،فاذا رجل متخشع
حسن الهيئة يصلي، فقال له رسول‏اللّه(ص): «اذهب اليه
فاقتله‏»، قال: فذهب اليه ابوبكر، فلما رآه على تلك الحالة كره
ان يقتله فجاء الى رسول اللّه (ص)، فقال النبي (ص) لعمر:
«اذهب اليه‏فاقتله‏»: قال فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي
رآه ابو بكر فكره ان يقتله فرجع، فقال: يا رسول اللّهاني رايته
متخشعا فكرهت ان اقتله، قال: «يا علي اذهب فاقتله‏».فذهب
علي فلم يره فرجع، فقال:«يارسول‏اللّه اني لم اره‏». فقال
النبي(ص): ان هذا واصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم
يمرقون من‏الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون
فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم
شرالبرية‏»((927)).
وعن انس بن مالك قال: كان في عهد رسول اللّه (ص) رجل
يعجبنا تعبده واجتهاده، وقد ذكرنا ذلك‏لرسول اللّه (ص)
باسمه فلم يعرفه، فوصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره
اذ طلع الرجل قلنا: هو هذا.قال: «انكم لتخبروني عن رجل ان
في وجهه لسفعة من الشيطان‏» فاقبل حتى وقف عليهم ولم
يسلم.فقال له رسول اللّه (ص) «انشدك اللّه هل قلت حين
وقفت على المجلس: ما في القوم احد افضل مني اوخير مني؟»
قال: اللهم نعم. ثم دخل يصلي فقال رسول اللّه (ص): «من
يقتل الرجل؟» فقال ابو بكر: انا،فدخل عليه فوجده قائما يصلي،
فقال:
سبحان اللّه اقتل رجلا يصلي؟ وقد نهى رسول اللّه (ص) عن
قتل المصلين، فخرج.فقال رسول اللّه (ص):«ما فعلت؟» قال:
كرهت ان اقتله وهو يصلي وانت قد نهيت عن قتل المصلين.
قال: «من يقتل‏الرجل؟» قال عمر: انا. فدخل فوجده واضعا
جبهته. فقال عمر: ابو بكر افضل مني، فخرج فقال له‏النبي(ص)
«مه؟» قال: وجدته واضعا وجهه للّه فكرهت ان اقتله. فقال: «من
يقتل الرجل؟ » فقال‏علي : انا. فقال: «انت ان ادركته‏». فدخل
عليه فوجده قد خرج. فرجع الى رسول‏اللّه (ص) فقال له:«مه؟»
قال: وجدته قد خرج. قال: «لو قتل ما اختلف من امتي رجلان
كان اولهم وآخرهم‏»((928)).
صاحب‏القصة هو ذو الثدية راس الفتنة يوم النهروان قتله امير
المؤمنين الامام علي يوم ذاك كما في صحيح‏مسلم((929))
وسنن ابي داود((930))، قال الثعالبي في ثمار
القلوب((931))(ص‏232): ذو الثدية شيخ الخوارج
وكبيرهم‏الذي علمهم الضلال، وكان النبي (ص) امر بقتله وهو
في الصلاة، فكع عنه ابو بكر وعمر غ، فلما قصده‏علي(رضي اللّه
عنه) لم يره، فقال له النبي (ص): «اما انك لو قتلته لكان اول
فتنة وآخرها»، ولما كان يوم‏النهروان وجد بين القتلى، فقال
علي (رضي اللّه عنه): ائتوني بيده المخدجة، فاتي بها فامر
بنصبها.
قال الاميني : هلم معي نسائل الرجلين ممن اخذا ان الصلاة
تحقن دم صاحبها؟ هل اخذاها عن شريعة‏غاب‏الصادع بها،
فارتبكا بين قوليه؟ اليست هي الشريعة المحمدية وصاحبها هو
الذي امر بقتل الرجل؟ وهوينظر اليه من كثب، ويعلم انه
يصلي، وقد اخبرته الصحابة وفيهم الرجلان بخضوعه وخشوعه
في صلاته،واعجابهم بتعبده واجتهاده، وفي المخبرين ابو بكر
نفسه، غير ان رسول اللّه (ص) عرف بواسع علمه النبوي‏ان كل
ذلك عن دهاء وتصنع يريد به اغراء الدهماء للحصول على امنيته
الفاسدة التي لم يتمكن منها الا على‏عهد الخوارج فاراد (ص)
قمع تلك الجرثومة الخبيثة بقتله، ولقد اراد (ص) تعريف
الناس بالرجل وايقافهم‏على ما انطوت عليه اضالعه فاستحفاه
عما دار في خلده حين وقف على القوم وفيهم النبي(ص) واراد
ان‏يعلموا انه يجد نفسه خيرا او افضل منهم ومنه (ص).
اي كافر هذا يجب قتله لا سيما بعد قوله (ص): «ان في وجهه
لسفعة من الشيطان‏»؟ واي شقي هذا يقف‏على المنتدى وقد
ضم صدره نبي العظمة ولم يسلم؟ واي صفيق يعرب عن سوء
ما هجس في ضميره‏بكل‏صراحة، غير محتشم عن موقفه، ولا
مكترث لمقاله؟.
نعم، لذلك كل ه امر (ص) بقتله وهو لا ينطق عن الهوى ان هو
الا وحي يوحى، لكن الشيخين رافا به‏حين وجداه يصلي تثبتا
على المبدا، وتحفظا على كرامة الصلاة ومن اتى بها، وزاد عمر:
ان ابابكر خير مني‏ولم‏يقتله. او لم يكن النبي الامر بقتله خيرا
منهما؟ او لم يكن هو مشرع الصلاة والاتي بحرمتها؟ او لم
يكن‏مصدقا لدى الصديق وصاحبه في قوله حول الرجل واعرابه
عن نواياه؟
كان خيرا للشيخين ان يتركا هذا التعلل الواضح فساده ويتعللا
بما في لفظ ابي نعيم في الحلية من انهما هاباان يقتلاه، وبما
اسلفناه عن ثمار القلوب للثعالبي من انهما كعا عن الرجل. اي
جبنا وضعفا وتهيبا الرجل،وان كان مصليا غير شاك السلاح،
فلعله يكون معذرا لهما عن ترك الامتثال، فلا يكلف اللّه نفسا الا
وسعها،لكنهما يوم عرفا نفسهما كذلك والانسان على نفسه
بصيرة ولو القى معاذيره لماذا اقدما على قتل الرجل،ففوتا على
النبي (ص) طلبته وعلى الامة السلام والامن ولو بعد لاي من
عمر الدهر عند ثورات الخوارج؟وابو بكر هذا هو الذي يحسبه
ابن حزم والمحب الطبري والقرطبي والسيوط‏ي اشجع الناس
كما مر(ص‏201)وقد يهابه ظل الرجال في مصلاهم!
وللرجل ذي الثدية سابقة سوء عند الشيخين من يوم قسم
رسول اللّه(ص) غنيمة هوازن، قال ذوالثدية للنبي (ص): لم
ارك عدلت! او: لم تعدل هذه قسمة ما اريد بها وجه اللّه! فغضب
رسول اللّه (ص)وقال: «ويحك اذا لم يكن العدل، عندي فعند
من يكون؟» فقال عمر: يا رسول اللّه الا اقتله؟ قال: «لا،سيخرج
من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج
السهم من الرمية لا يجاوز ايمانهم‏تراقيهم‏». تاريخ ابي الفداء
(1/148)، الامتاع للمقريزي (ص‏425).
(5) تهالك الخليفة في العبادة
لم يؤثر عن الخليفة داب على العبادة على العهد النبوي او
بعده غير اشياء لا تنجع من اثبتها له الا بعد تمحل‏متطاول، او
تفلسف في القول لو اجدت الفلسفة على لا شي‏ء.
روى المحب الطبري في الرياض النضرة((932)) (1/133): ان
عمر بن الخطاب اتى الى زوجة ابي بكر بعد موته،فسالها عن
اعمال ابي بكر في بيته ما كانت، فاخبرته بقيامه في الليل
واعمال كان يعملها، ثم قالت: الا انه كان‏في كل ليلة جمعة
يتوضا ويصلي [العشاء]((933)) ثم يجلس مستقبل القبلة راسه
على ركبتيه، فاذا كان وقت‏السحر رفع راسه وتنفس الصعداء،
فيشم في البيت روائح كبد مشوي. فبكى عمر وقال: انى لابن
الخطاب‏بكبد مشوي.
وفي مرآة الجنان (1/68): جاء ان ابا بكر كان اذا تنفس يشم منه
رائحة الكبد المشوية.
وفي عمدة التحقيق للعبيدي المالكي((934)) (ص‏135): لما
مات ابو بكر الصديق(رضي اللّه عنه) واستخلف‏عمر (رضي اللّه
عنه) كان يتبع آثار الصديق (رضي اللّه عنه)، ويتشبه بفعله،
فكان يتردد كل قليل الى‏عائشة واسماء رضي اللّه تعالى عنهما
ويقول لهما: ما كان يفعل الصديق اذا خلا بيته، ليلا؟ فيقال له:
ما رايناله كثير صلاة بالليل ولا قيام، انما كان اذا جنه الليل
يقوم عند السحر ويقعد القرفصاء، ويضع راسه على‏ركبتيه
ثم‏يرفعها الى السماء ويتنف س الصعداء ويقول: اخ، فيطلع
الدخان من فيه، فيبكي عمر ويقول: كل‏شي‏ء يقدر عليه عمر الا
الدخان. فقال:
واصل ذلك ان شدة خوفه من اللّه تعالى اوجبت احتراق قلبه،
فكان جليسه يشم منه رائحة الكبد المشوي،وسببه ان الصديق
لم يتحمل اسرار النبوة الملقاة اليه، وفي الحديث: «انا اعلمكم
باللّه واخوفكم منه‏»،فالمعرفة التامة تكشف عن جلال المعروف
وجماله، وكلاهما امر عظيم جدا، تتقطع دونه الغايات، ولولا
ان‏اللّه تعالى ثبت من اراد ثباته وقواه على ذلك، ما استطاع احد
الوقوف ذرة على كليهما جلالا وجمالا، والغاية‏في الطرفين قد
نالها الصديق (رضي اللّه عنه)، فقد ورد: ما صب في صدري
شي‏ء الا صببته في صدر ابي‏بكر. ولو صبه جبريل (ع) في صدر
ابي بكر ما اطاقه، لعدم مجراه من المماثل، لكن لما صب في
صدر النبي(ص) وهو من جنس البشرية، فجرى في قناة مماثلة
للصديق، فبواسطتها اطاق حمله، ومع ذلك احترق‏قلبه.
وروى الترمذي الحكيم في نوادر الاصول((935)) (ص‏31 و
261)، عن بكر بن عبداللّه المزني قال: لم يفضل ابوبكر (رضي
اللّه عنه) الناس بكثرة صوم ولا صلاة، انما فضلهم بشي‏ء كان
في قلبه. وذكر ابو محمد الازدي في‏شرح مختصر صحيح
البخاري (2/41، 105 و 3/98 و 4/63)، والشعراني في
اليواقيت‏والجواهر((936))(2/221) ، واليافعي في مرآة الجنان
(1/68)، والصفوري في نزهة المجالس (2/183): ان
في‏الحديث: ما فضلكم ابو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشي‏ء
وقر في صدره.
قال الاميني : لو صح حديث الكبد المشوي لوجب اطراده في
الانبياء والرسل ويقدمهم سيد المرسلين محمد(ص) لانهم
اخوف من اللّه من ابي بكر وخاتم النبيين اخوفهم، ولوجب ان
تكون الرائحة فيهم اشدوانشر،فان الخوف فرع الهيبة المسببة
عن احاطة العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة،
وينبئنا عن ذلك‏قوله تعالى: (انما يخشى اللّه من عباده
العلماء)((937)) قال ابن عباس: يريد انما يخافني من خلفي
من علم‏جبروتي وعزتي وسلطاني. وقيل: عظموه وقدروا قدره،
واخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علماازداد به‏خشية. تفسير
الخازن((938)) (3/525).
وفي الحديث: «اعلمكم باللّه اشدكم له خشية‏». تفسير ابن جزي
(3/158).
وفي خطبة له (ص): «فواللّه اني لاعلمهم باللّه واشدهم له
خشية‏»((939)).
وفي خطبة اخرى له (ص): «لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا
ولبكيتم كثيرا»((940)).
وقال‏مولانا اميرالمؤمنين: «اعلمكم‏اخوفكم‏».
غررالحكم‏للامدي((941))(ص‏62).
وقال مقاتل: اشد الناس خشية للّه اعلمهم. تفسير الخازن
(3/525).
وقال الشعبي ومجاهد: انما العالم من خشي اللّه((942)).
وقال الربيع بن انس: من لم يخش اللّه تعالى فليس
بعالم((943)).
ومن هنا قوله (ص): «اني اعلمكم باللّه واخشاكم للّه»((944))
ولذلك تجد ان ازلف الناس الى السلطان يتهيبه‏اكثر ممن دونه
في الزلفة. فترى الوزير يكبره ويخافه ابلغ ممن هو ادنى منه،
والامر على هذه النسبة في‏رجال الوظائف، حتى تنتهي الى
ابسطها كالشرط‏ي مثلا، ثم الى سائر افراد الرعية.
وهلم معي الى الاولياء والمقربين والمتهالكين في الخشية من
اللّه والمتفانين في العبادة وفي مقدمهم سيدهم‏مولانا امير
المؤمنين علي (ع) الذي كان في حلك الظلام يتململ تململ
السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويتاوه‏ويتفوه بما ينم عن غاية
الخوف والخشية، وهو قسيم الجنة والنار بنص من الرسول
الامين كما مر في الجزءالثالث (ص‏299)، وكان يغشى عليه
عدة غشوات في كل ليلة، ولم يشم احد منه ولا منهم رائحة
الكبدالمشوي.
ولو اطرد ما يزعمونه لوجب تكيف الفضاء من لدن آدم الى عهد
الخليفة بتلك الرائحة المنتشرة من تلكم‏الاكباد المشوية،
ولاسود وجه الدنيا بذلك الدخان المتصاعد من الاكباد
المحترقة.
ايحسب راوي هذه المهزاة ان على كبد المختشي نارا موقدة
يعلوها ضرم، ويتولد منها دخان؟ فلم لم تحرق مافي الحشا كله
ويكون انضاجها مقصورا على الكبد فحسب؟ وهل للكبد حال
المعذبين الذي كلما نضجت‏جلودهم بدلوا جلودا اخرى؟ والا
فالعادة قاضية بفناء الكبد بذلك الحريق المتواصل.
وان تعجب فعجب بقاء الانسان بعد فناء كبده، ولعلك اذا
احفيت الراوي السؤال عن هذه لاجابك بانهاكلها معاجز تخص
بالخليفة.
واحسب ان صاحب المزاعم من المتطفلين على موائد العربية،
فان العربي الصميم جد عليم بكثير الكناية‏والاستعارة في لغة
الضاد، فاذا قالوا: ان نار الخوف احرقت فلانا لا يريدون لهبا
متقدا يصعد منه الدخان اوتشم منه رائحة شي الاكباد، وانما
يعنون لهفة شديدة، وحرقة معنوية تشبه بالنيران.
واما ما سرده العبيدي من فلسفة ذلك الحريق في كبد الخليفة
فانها من الدعاوي الفارغة وفيهاالغلوالفاحش، وان شئت قلت:
ان ما هي اوهام لم تقم لها حجة، وليس من السهل ان يدعمها
ببرهنة‏يمسكها عن التزحزح، فهي كالريشة في مهب الريح تجاه
حجاج المجادل، ووجاه سيرة الخليفة نفسه، وماعزاه الى
الرواية من حديث خرافة: ما صب اللّه في صدري شيئا الا
وصببته في صدر ابي بكر. فهو على‏تنصيص العلماء على وضعها
كما مر في (5/316) لا يلزم به الخصم، ولا يثبت به المدعى،
وفيه من سرف‏القول ما لا يخفى على العارف بالرجال
وتاريخهم.
(6) تبرز الخليفة في الاخلاق
لم نقف من اخلاقيات الخليفة على شي‏ء يرفع الانسان من هذه
الناحية عدا ما في صحيح البخاري في كتاب‏التفسير من طريق
ابن ابي مليكة عن عبداللّه بن الزبير قال: قدم ركب من بني
تميم على النبي (ص) قال ابوبكر: امر القعقاع بن معبد، وقال
عمر: امر الاقرع بن حابس((945)). فقال ابو بكر: ما اردت الا
خلافي، فقال‏عمر: ما اردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت
اصواتهما، فنزل في ذلك: (يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين
يدي‏اللّه ورسوله واتقوا اللّه ان اللّه سميع عليم)((946)).
واخرج البخاري من طريق ابن ابي مليكة ايضا، قال: كاد
الخيران ان يهلكا ابو بكر وعمر غ، رفعااصواتهما عند النبي (ص)
حين قدم عليه ركب بني تميم، فاشار احدهما بالاقرع بن
حابس اخي بني مجاشع،واشار الاخر برجل آخر. قال نافع: لا
احفظ اسمه. فقال ابو بكر لعمر: ما اردت الا خلافي، قال: ما
اردت‏خلافك، فارتفعت اصواتهما في ذلك، فانزل اللّه: (يا ايها
الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت‏النبي ولاتجهروا له ب
القول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا
تشعرون)((947))((948)).
قال الاميني : الا تعجب من الرجلين انهما طيلة مصاحبتهما
هذا النبي المعظم(ص) لم يحدهما التاثر باخلاقه‏الكريمة الى
الحصول على ادب محاضرة العظماء والمثول بين ايديهم لا
سيما هذا العظيم، العظيم خلقه‏بنص‏الذكر الحكيم، وما عرفا ان
الكلام بين يديه لابد ان يكون تخافتا وهمسا اكبارا لمقامه
واعظاما لمرتبته.وان لا يتقدم احد اليه بالكلام الا ان يكون
جوابا عن سؤال، او ماينم عن امتثال امر، اواخبارا عن مهمة،
اوسؤالا عن حكم لكنهما تقدما بالكلام الخارج عن ذلك كله،
وتماريا واحتدم الحوار بينهما، وارتفعت اصواتهمافي ذلك،
وكاد الخيران ان يهلكا حتى جعلا اعمالهما في مظنة الاحباط،
فنزلت الاية الكريمة.
وما اخرجه ابن عساكر((949)) عن المقدام انه قال: استب
عقيل بن ابي طالب وابو بكر وكان ابو بكر سبابا.وكان ابن حجر
استشعر من هذه الكلمة ما لا يروقه فقال: سبابا او نسابا، لكن
الرجل انصف في الترديدوقد جاء بعده السيوط‏ي فحذف كلمة:
سبابا وجعلها نسابا بلا ترديد((950))، والمنقب يعلم ان لفظة
(نسابا) لاصلة لها بقوله استبا بل المناسب كونه سبابا، وكان
الراوي يريد بذلك انه فاق عقيلا بالسب لانه كان ملكة‏له، وان
كان يسع المحور ان يقول بارادة كونه نسابا انه كان عارفا
بحلقات الانساب ومواقع الغمز فيها، فكان‏اذا استب يطعن
مستابه في عرضه ونسبه، لكنه لا يجدي المتمحل نفعا فانه من
اشنع مصاديق السب، وفيه‏القذف واشاعة الفحشاء.
ويظهر من لفظ الحديث كما في الخصائص الكبرى((951))
(2/86)، ان السباب بين ابي‏بكر وعقيل كان بمحضرمن رسول
اللّه (ص)، وكان ذلك في اخريات ايامه(ص).
ومن شواهد كونه سبابا وسباب المسلم فسوق((952)) ما مر
في صفحة (153) من قوله للسائل عن القدر:يابن اللخناء. وقوله
لعمر: ثكلتك امك وعدمتك يابن الخطاب، لما بلغه طلب
الانصار ان يولي عليهم‏رجلااقدم سنا من اسامة، فاخذ بلحيته
فقال: استعمله رسول اللّه (ص) وتامرني ان انزعه ((953)).
على انه وهم في قوله هذا من ناحيتين:
احداهما : ان الذي يجب ان لا يعزل من منصوبي رسول اللّه
(ص) هو الخليفة فحسب لا يتسرب اليه الراي‏والمقاييس، كما
لا يتطرقان الى الاحكام والسنن المشرعة، لانه (ص) نصبه يوم
نصب بامر من المولى‏سبحانه رئيسا عالميا مدى امد حياته، كما
انه شرعها احكاما عالمية مدى امد الدهر. بخلاف امراء
الجنودوالولاة والعمال فانه (ص) كان يوليهم الامر لمصالح
وقتية بعد الفراغ من تاهلهم للامارة والولاية والعمل،واذا
انقضى ظرف المصلحة او تبدلت باخرى او سلب التاهل من
احدهم كان يزحزحه من عمل الى عمل،او يسقطه عن الوظيفة
نهائيا، او الى امد تعود بعده اليه جدارته، وكذلك شان الخليفة
من بعده فانه قائم‏مقامه (ص) وله النصب والنزع، والخفض
والرفع، ولذلك امر ابو بكر نفسه خالد بن سعيد على
مشارق‏الشام في الردة، وكان قد استعمله النبي (ص) على ما
بين زمع وزبيد الى حد نجران او على صدقات مذحج‏ومات
(ص) وهو على عمله.
واستعمل ابو بكر نفسه ايضا يعلى بن امية على حلوان، ثم عمل
لعمر على بعض اليمن، ثم استعمله عثمان‏على صنعاء، وكان
رسول اللّه (ص) قد استعمله على الجند وتوفي وهو على عمله.
واستعمل ابو بكر عكرمة على عمان ثم عزله واستعمل عليها
حذيفة بن محصن وكان قد استعمل رسول اللّه(ص) عمرو بن
العاص على عمان فمات رسول اللّه (ص) وهو اميرها، واستعمل
عكرمة على صدقات‏هوازن عام وفاته.
واستعمل عمر عثمان بن ابي العاص على عمان والبحرين سنة
(15)، وكان قد استعمله النبي (ص) على‏الطائف واقره ابو بكر
بعد وفاته (ص).
واستعمل عمر عبداللّه بن قيس ابا موسى‏الاشعري على البصرة،
ثم عزله عثمان واقره على الكوفة، ثم عزله‏علي (ع) عنها، وكان
رسول اللّه (ص) ولاه مخاليف اليمن.
وقال ابو الفدا في تاريخه (1/166): اقر عثمان ولاة عمر سنة،
لانه كان اوصى بذلك ثم عزل المغيرة بن شعبة‏عن الكوفة،
وولاها سعد بن ابي وقاص ثم عزله، وولى الكوفة الوليد بن
عقبة وكان اخا عثمان من امه.
راجع((954)): تاريخ الطبري، والكامل لابن الاثير،
والاستيعاب، واسد الغابة، وتاريخ‏ابي‏الفداء، وتاريخ‏ابن
كثير،والاصابة، وغيرها من‏كتب‏التاريخ ومعاجم‏التراجم.
وكم وكم لهؤلاء الولاة المذكورين من نظير، فليس اسامة ببدع
من هؤلاء، وانما هو كاحدهم، له مالهم‏وعليه ما عليهم.
فاقتصار الخليفة في الحجاج بنصب رسول اللّه (ص) اسامة في
غير محله، الا ان يقيده بان ما ارته (ص) من‏المصلحة يوم ذلك
باقية بعد من غير حاجة الى اي من القول والفعل اللذين
ارتكبهما.
الناحية الثانية : ان طلبة الانصار هذه متخذه عن عمل الخليفة
نفسه وصاحبيه، حيث قدماه يوم السقيفة‏بكبر سنه وشيبته كما
مر في صفحة (91، 92) فلا غضاضة على الانصار اذن ان يتحروا
للامارة عليهم من‏هو اقدم سنا من اسامة تاسيا بالخلافة.
واذا كان تولية الرسول (ص) اسامة للقيادة مانعة عن نزعه فما
بال منصوبه(ص) للخلافة يوم غديرخم‏بمشهد من مائة الف او
يزيدون، وفي مواقف اخرى متكثرة يعزل عن الامر؟ ولا منكر
يصاخ اليه، ولاوازع يسمع منه، هب ان قيسا اخذ بلحية عمر يوم
ذاك كما اخذ بها ابو بكر يوم‏اسامة، واحتج آخرون‏لامير
المؤمنين(ع) واحتدم الحوار، لكن: لا راي لمن لا يطاع.
نعم، اخرج ابن حبان((955)) في خلق الخليفة من طريق
اسماعيل بن محمد الكذاب الوضاع مرفوعا عن‏جبرئيل انه قال:
ابو بكر لفي السماء اشهر منه في الارض، فان الملائكة لتسميه
حليم قريش. انتهى. وقداسلفناه في الجزء الخامس (ص‏344)
وبينا هناك بانه كذب موضوع.
ولو كان الخليفة حليم قريش او كان يرث النبي الاعظم شيئا
في خلقه العظيم، لما توفيت بضعته الطاهرة‏سلام اللّه عليها
وهي واجدة علية من جراء ماتلقت منه من غلظة وعنف في
كشف بيتها الذي تمنى تركه‏عند وفاته ولم يكن يامر بقتال من
فيه((956))، الى هنات وهنات.
اخرج البخاري في باب فرض الخمس((957))(5/5)، عن
عائشة: ان فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول اللّه(ص) سالت
ابابكر الصديق (رضي اللّه عنه) بعد وفاة رسول اللّه (ص) ان
يقسم لها ميراثها، ما ترك رسول‏اللّه (ص) مما افاء اللّه عليه،
فقال لها ابو بكر: ان رسول اللّه (ص) قال: لا نورث، ما تركنا
صدقة. فغضبت‏فاطمة بنت رسول اللّه (ص) فهجرت ابابكر، فلم
تزل مهاجرته حتى توفيت.
واخرج في الغزوات باب غزوة خيبر((958))(6/196)، عن
عائشة قالت: ان‏فاطمة... الى ان قالت: فابى ابوبكر ان يدفع الى
فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على ابي بكر في ذلك،
فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت،وعاشت بعد النبي (ص) ستة
اشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها ابا بكر،
وصلى‏عليها.
ويوجد الحديث((959)) في صحيح مسلم (2/72)، مسند احمد
(1/6، 9)، تاريخ الطبري (3/202)، مشكل الاثارللطحاوي
(1/48)، سنن البيهقي (6/300، 301)، كفاية الطالب (ص‏226)،
تاريخ ابن كثير (5/285). وقال في(6/333): لم تزل فاطمة
تبغضه مدة حياتها، وذكره بلفظ الصحيحين الدياربكري في
تاريخ الخميس(2/193).
ولاي الامور تدفن ليلا
بضعة المصطفى ويعفى ثراها
بلغت من موجدتها انها اوصت بان تدفن ليلا، وان لا يدخل
عليها احد، ولا يصلي عليها ابو بكر، فدفنت‏ليلا ولم يشعر بها ابو
بكر، وصلى عليها علي وهو الذي غسلها مع اسماء بنت
عميس((960)).
وقال الواقدي‏كما في السيرة الحلبية((961)) (3/390): ثبت
عندنا ان عليا كرم اللّه وجهه‏دفنها غ ليلاوصلى‏عليها ومعه
العباس والفضل، ولم يعلموا بها احدا.
وقال ابن حجر في‏الاصابة (4/379)، والزرقاني في شرح
المواهب (3/207): روى الواقدي من طريق‏الشعبي قال: صلى
ابو بكر على فاطمة. وهذا فيه ضعف وانقطاع، وقد روى بعض
المتروكين عن مالك عن‏جعفر بن محمد عن ابيه نحوه ووهاه
الدارقطني وابن عدي((962))، وقد روى البخاري عن عائشة:
انها لماتوفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها ابابكر،
وصلى عليها.
قال الاميني : حديث مالك عن جعفر بن محمد اسلفناه في
الجزء الخامس صحيفة (350) ولفظه: توفيت‏فاطمة ليلا، فجاء
ابو بكر وعمر وجماعة كثيرة، فقال ابو بكر لعلي: تقدم فصل.
قال: لا واللّه لا تقدمت‏وانت خليفة رسول اللّه (ص) ،
فتقدم ابو بكر فصلى اربعا. وقد بينا هنالك انه من موضوعات
عبداللّه بن محمد القدامي المصيصي كما عده‏الذهبي في
الميزان((963))(2/7) من مصائبه.
ومن جراء تلك الموجدة منعت عن ان تدخلها يوم ذاك عائشة
كريمة ابي‏بكر فضلا عن ابيها، فجاءت‏تدخل فمنعتها اسماء
فقالت: لا تدخلي. فشكت الى ابي بكر وقالت: هذه الخثعمية
تحول بيننا وبين بنت‏رسول اللّه (ص)، فوقف ابو بكر على الباب
وقال: يا اسماء ما حملك على ان منعت ازواج النبي (ص)
ان‏يدخلن على بنت رسول اللّه (ص)، وقد صنعت لها هودج
العروس؟ قالت: هي امرتني ان لا يدخل عليهااحد، وامرتني ان
اصنع لها ذلك.
راجع((964)): الاستيعاب (2/772)، ذخائر العقبى (ص‏53)،
اسد الغابة (5/524)، تاريخ الخميس (1/313)،كنز العمال
(7/114)، شرح صحيح مسلم للسنوسي (6/281)، شرح الابي
لمسلم (6/282)، اعلام النساء(3/1221).
اعتذار الخليفة الى الصديقة
هذه المذكورات كلها وبعض سواها تكذب ما اختلقته رماة
القول على عواهنه من رواية الشعبي انه قال:جاء ابو بكر الى
فاطمة وقد اشتد مرضها فاستاذن عليها فقال لها علي: هذا ابو
بكر على الباب يستاذن فان‏شئت ان تاذني له؟ قالت: اوذاك
احب اليك؟ قال: نعم. فدخل فاعتذر اليها وكلمها فرضيت عنه.
وعن الاوزاعي قال : بلغني ان فاطمة بنت رسول اللّه (ص)
غضبت على ابي بكر فخرج ابو بكر حتى قال‏على بابها في يوم
حار، ثم قال: لا ابرح مكاني حتى ترضى عني بنت
رسول‏اللّه(ص) فدخل‏عليهاعلي‏فاقسم عليها لترضى،
فرضيت((965)).
ما قيمة هذه الرواية تجاه تلكم الصحاح؟ ولا يوجد لها اثر في اي
اصل من اصول الحديث ومسانيدالحفاظ، وقد بلغت الى
الاوزاعي المتوفى (157) وارسل بها الشعبي المتوفى (104،
107، 109، 110)ولايعرف من بلغها، ومن اتى بها، ومن اوحاها
الى الرجلين.
نعم، تساعد نصوص الصحاح ما اتى به ابن قتيبة والجاحظ، قال
الاول: ان‏عمر قال لابي بكر غ: انطلق بناالى فاطمة، فانا قد
اغضبناها، فانطلقا جميعا فاستاذنا على فاطمة فلم تاذن لهما
فاتيا عليا فكلماه، فادخلهماعليها، فلما قعدا عندها حولت
وجهها الى الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم
ابو بكر فقال:يا حبيبة رسول اللّه واللّه ان قرابة رسول اللّه احب
الي من قرابتي، وانك لاحب الي من عائشة ابنتي،ولوددت يوم
مات ابوك اني مت ولا ابقى بعده، افتراني اعرفك واعرف
فضلك وشرفك وامنعك حقك‏وميراثك من رسول اللّه؟ الا اني
سمعت اباك رسول اللّه (ص) يقول: لا نورث، ما تركنا فهو
صدقة. فقالت:«ارايتكما ان حدثتكما حديثا عن رسول اللّه (ص)
تعرفانه وتفعلان به؟» فقالا: نعم: فقالت: «نشدتكمااللّه الم تسمعا
رسول اللّه (ص) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة
من سخط‏ي، فمن احب فاطمة‏ابنتي فقد احبني، ومن ارضى
فاطمة فقد ارضاني، ومن اسخط فاطمة فقد اسخطني؟» قالا:
نعم سمعناه من‏رسول‏اللّه (ص). قالت: «فاني اشهد اللّه وملائكته
انكما اسخطتماني وما ارضيتماني، ولئن لقيت النبي‏لاشكونكما
اليه‏». فقال ابو بكر: انا عائذ باللّه تعالى من سخطه وسخطك يا
فاطمة. ثم انتحب ابو بكريبكي حتى كادت نفسه ان تزهق،
وهي تقول: «واللّه لادعون عليك في كل صلاة اصليها»، ثم خرج
باكيافاجتمع الناس اليه، فقال لهم: يبيت كل رجل
[منكم]((966))معانقا حليلته مسرورا باهله وتركتموني وما
انافيه، لا حاجة لي في بيعتكم، اقيلوني بيعتي((967)).
وقال الجاحظ في رسائله((968)) (ص‏300): وقد زعم اناس ان
الدليل على صدق خبرهما يعني ابابكر وعمر في منع
الميراث وبراءة ساحتهما ترك اصحاب رسول‏اللّه(ص) النكير
عليهما.. قد يقال لهم: لئن كان ترك‏النكير دليلا على صدقهما،
ان ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما
والمطالبين لهما دليل على صدق‏دعواهم، او استحسان
مقالتهم، ولا سيما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة
والملاحاة، وظهرت الشكية،واشتدت الموجدة، وقد بلغ ذلك
من فاطمة انها اوصت ان لا يصلي عليها ابو بكر. ولقد كانت
قالت له حين‏اتته مطالبة بحقها ومحتجة لرهطها: «من يرثك يا
ابابكر اذا مت؟» قال: اهلي وولدي. قالت: «فما بالنا لانرث‏النبي
(ص)؟»((969))فلما منعها ميراثها، وبخسها حقها واعتل عليها،
وجلح امرها، وعاينت التهضم،وايست في التورع، ووجدت نشوة
الضعف وقلة الناصر، قالت: «واللّه لادعون اللّه عليك‏». قال:
واللّهلادعون اللّه لك. قالت: «واللّه لاكلمتك ابدا» قال: واللّه لا
اهجرك ابدا. فان يكن ترك النكير على ابي بكردليلا على
صواب منعها، فان في ترك النكير على فاطمة دليلا على
صواب طلبها؟ وادنى ما كان يجب عليهم‏في ذلك تعريفها ما
جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها عن الخطا، ورفع قدرها
عن البذاء، وان تقول‏هجرا، وتجور عادلا، او تقطع واصلا، فاذا لم
تجدهم انكروا على الخصمين جميعا فقد تكافات
الامورواستوت الاسباب، والرجوع الى اصل حكم اللّه في
المواريث اولى بنا وبكم، و اوجب علينا وعليكم.
فان قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها، وكلما ازدادت
عليه غلظة ازدادلها لينا ورقة؟ حيث تقول له:«واللّه لا اكلمك
ابدا» فيقول: واللّه لا اهجرك ابدا. ثم تقول: «واللّه لادعون اللّه
عليك‏». فيقول: واللّهلادعون اللّه لك. ثم يتحمل منها هذا الكلام
الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش‏والصحابة
مع حاجة الخلافة الى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة
والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن ان قال‏معتذرا متقربا كلام
المعظم لحقها، المكبر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنن
عليها: ما احد اعز علي منك فقرا،ولا احب الي منك غنى، ولكن
سمعت رسول اللّه (ص) يقول: انا معاشر الانبياء لا نورث ما
تركناه فهوصدقة.
قيل لهم: ليس ذلك‏بدليل على‏البراءة من‏الظلم
والسلامة‏من‏الجور، وقد يبلغ‏من مكر الظالم ودهاء الماكر
اذاكان ارببا وللخصومة معتادا ان يظهر كلام المظلوم، وذلة
المنتصف، وحدب‏الوامق، ومقت المحق. وكيف‏جعلتم ترك
النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة؟ وقد زعمتم ان عمر قال
على منبره: متعتان كانتا على عهدرسول‏اللّه(ص):
متعة النساء ومتعة الحج، انا انهى عنهما واعاقب
عليهما((970))، فما وجدتم احدا انكر قوله، ولا استشنع
مخرج‏نهيه، ولا خطاه في معناه، ولا تعجب منه ولا استفهمه.
وكيف تقضون بترك النكير؟ وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد
ذلك ان النبي(ص) قال: «الائمة من‏قريش‏»((971)) ثم قال في
شكايته: لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه الشك((972))، حين
اظهر الشك في استحقاق‏كل‏واحد من الستة الذين جعلهم
شورى وسالم عبد لامراة من الانصار وهي اعتقته وحازت
ميراثه، ثم لم‏ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل انسان بين قوله
ولا تعجب منه، وانما يكون ترك النكير على من لا رغبة‏ولا
رهبة عنده دليلا على‏صدق قوله وصواب عمله، فاما ترك
النكير على من يملك الضعة والرفعة والامروالنهي والقتل
والاستحياء والحبس والاطلاق فليس بحجة تشفي ولا دلالة
تضي‏ء. انتهت كلمة الجاحظ.

نظرة في كلمة قارصة
لا يسعنا ان نفوه في الدفاع عن الخليفة بما قال ابن كثير في
تاريخه((973))(5/249) من ان فاطمة حصل لها آوهي امراة
من البشر ليست بواجبة العصمة عتب وتغضب، ولم تكلم
الصديق حتى ماتت. وقال في(ص‏289): وهي امراة من بنات
آدم تاسف كما ياسفون، وليست بواجبة العصمة، مع وجود نص
رسول اللّه(ص) ومخالفة ابي بكر الصديق (رضي اللّه عنه).
انى لنا السرف والمجازفة في القول بمثل هذا تجاه آية التطهير
في كتاب اللّه العزيز النازلة فيها وفي ابيها وبعلهاوبنيها؟
انى لنا بذلك وبين يدينا هتاف النبي الاقدس (ص): «فاطمة
بضعة مني فمن اغضبها اغضبني‏».
وفي لفظة: «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما
اغضبها».
وفي لفظة: «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني
ما يبسطها».
وفي لفظة: «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما
انصبها» في تاج العروس((974)): اي يتعبني مااتعبها.
وفي لفظة: «فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما
آذاها».
وفي لفظة: «فاطمة بضعة مني يسعفني ما يسعفها»، في تاج
العروس((975)): اي ينالني ما ينالها، ويلم بي مايلم‏بها.
وفي لفظة: «فاطمة شجنة من ي يبسطني ما يبسطها،
ويقبضني ما يقبضها».
وفي لفظة: «فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني‏».
وفي لفظة: «فاطمة مضغة مني يقبضني ما قبضها، ويبسطني
ما بسطها».
وفي لفظة: «فاطمة مضغة مني يسرني ما يسرها».
اخرجها على اختلاف الفاظها ائمة الصحاح الستة، وعدة اخرى
من رجال الحديث في السنن والمسانيدوالمعاجم، واليك
جملة ممن رواها:
1 ابن ابي مليكة: المتوفى (117)، كما في رواية البخاري
ومسلم وابن ماجة وابي داود واحمدوالحاكم((976)).
2 عمرو بن دينار المكي: المتوفى (125، 126) كما في
صحيحي البخاري ومسلم((977)).
3 الليث بن سعد المصري: المتوفى (175)، كما في اسناد ابن
ماجة وابن داود واحمد((978)).
4 ابو محمد بن عيينة الكوفي: المتوفى (198)، كما في
الصحيحين((979)).
5 ابو النضر هاشم‏البغدادي: المتوفى (205، 207) وابي كما
في مسند احمد((980)).
6 احمد بن يونس اليربوعي: المتوفى (227)، كما في صحيح
مسلم وسنن ابي داود((981)).
7 الحافظ ابو الوليد الطيالسي: المتوفى (227)، كما في
صحيح البخاري((982)).
8 ابو المعمر الهذلي: المتوفى (236) كما في صحيح
مسلم((983)).
9 قتيبة بن سعيد الثقفي: المتوفى (240)، روى عنه مسلم
وابو داود((984)).
10 عيسى بن حماد المصري: المتوفى (248، 249)، روى عنه
ابن ماجة((985)).
11 امام الحنابلة احمد: المتوفى (241) في مسنده((986))
(4/323، 328).
12 الحافظ البخاري ابو عبداللّه: المتوفى (256)، في صحيحه
في المناقب((987))
(5/274).
13 الحافظ مسلم القشيري: المتوفى(261)، في صحيحه في
الفضائل((988))(2/261).
14 الحافظ ابو عبداللّه بن ماجة: المتوفى (272)، في
سننه((989)) (1/216).
15 الحافظ ابو داود السجستاني: المتوفى (275)، في
سننه((990)) (1/324).
16 الحافظ ابو عيسى الترمذي: المتوفى (275)، في
جامعه((991)) (2/319).
17 الحكيم ابو عبد اللّه الترمذي، المحدث: المتوفى (285)،
في نوادر الاصول((992))(308).
18 الحافظ ابو عبدالرحمن‏النسائي: المتوفى(303)، في
خصائصه((993))(ص‏35).