شهود اللجنة
لقد استشهدت اللجنة على ما ارادت بكلام الالوسي وابني كثير
وحجر، كانها لم تجد في ابي ذر كلاما لغيرهؤلاء من ناصبي
العداوة لاهل البيت وشيعتهم، وما اذهلها او تذاهلت هي عما
قدمناه من الكلمات فيه!وما كان اغناه عن الركون الى هذه
التافهات المختلقة المائنة! لكنا نعذرها على ذلك لانها تتحرى
ما يدعم‏دعواها، وما اشرنا اليه من الكلمات السابقة تنقض تلكم
الدعوى وتدحرها، ولذلك اقتصرت في النقل على‏بعض تلكم
الكلم، وانما اسقطت البعض الاخر مما لفقوه للتهافت الظاهر
بينها، فكانها شعرت بذلك‏فحذفته، وهي تحسب ان البحاثة لا
تراجع تلك الكتب ولا تقف على تناقضها، او ان الاراء لا مناقشة
في‏حسابها، وليس وراءها محاسب ولو بعد حين، فنقول هاهنا:
اما الالوسي فاليك تمام كلامه في تفسيره(10/87) قال في
تفسير قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
في سبيل اللّه فبشرهم‏بعذاب اليم):
اخذ بظاهر الاية فاوجب انفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة
ابو ذر (رضي اللّه عنه)، وجرى بينه لذلك‏وبين معاوية في الشام
ما شكاه له الى عثمان (رضي اللّه عنه) في المدينة، فاستدعاه
اليها فرآه مصرا على ذلك‏حتى ان كعب الاحبار قال له: يا ابا ذر
ان الملة الحنيفية اسهل الملل واعدلها، وحيث لم يجب انفاق
كل المال‏في الملة اليهودية وهي اضيق الملل واشدها كيف
يجب فيها؟ فغضب رضي اللّه تعالى عنه وكانت فيه حدة‏وهي
التي دعته الى تعيير بلال (رضي اللّه عنه) بامه وشكايته الى
رسول اللّه (ص) وقوله فيه:
انك امرؤ فيك جاهلية، فرفع عصاه ليضربه وقال له: يا يهودي
ما ذاك من هذه المسائل. فهرب كعب‏فتبعه حتى استعاذ بظهر
عثمان (رضي اللّه عنه) فلم يرجع حتى ضربه، وفي رواية: ان
الضربة وقعت على‏عثمان، وكثر المعترضون على ابي ذر في
دعواه، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون: لو
وجب‏انفاق كل المال لم يكن للاية وجه، وكانوا يجتمعون عليه
مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك، فاختارالعزلة
فاستشار عثمان فيها، واشار اليه بالذهاب الى الربذة، فسكن
فيها حسبما يريد، وهذا ما يعول عليه في‏هذه القصة. ورواها
الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم
بذلك اطفاء نوره ويابى اللّهالا ان يتم نوره. انتهى.

في هذه الكلمة مواقع للنظر
1 قوله: اخذ بظاهر الاية. الخ. ليس للاية ظاهر غير باطنها،
وليس فيها ايجاب لانفاق جميع المال المؤداة‏زكاته الفاضل
عن الحاجة، فاي ظهور فيها يعاضد ما عزوه الى ابي ذر حتى
يسعه الاخذ به والتعويل‏عليه؟ وانما هي زاجرة عن الاكتناز
الذي بيناه في صفحة (320) ولم يؤثر قط عن ابي ذر
المصارحة ولاالاشارة الى شي‏ء مما عزاه اليه، بل اوقفناك على
ان كل ما روي عنه او فيه مناف لذلك.
2 ما رتبه على ذلك من وقوع النزاع بينه وبين معاوية، وقد
اسلفنا في صفحة (295) عن صحيح البخاري‏من ان النزاع
بينهما كان في نزول الاية لا في مفادها، فكان معاوية يزعم انها
نزلت في اهل الكتاب وابو ذريعممها عليهم وعلى المسلمين،
ومر ايضا مراد ابي ذر من الانفاق ومقدار المنفق من المال وانه
ليس ما فضل‏عن الحاجة وانما هو ما ندب اليه الشرع واجبا او
تطوعا، ولم يكن انكاره الا على الاكتناز الذي هو لدة‏الاحتكار
في الاطعمة، يحرم الملا من منافع النقدين ونمائهما، ويحرم
الفقراء خاصة عن حقوقهم المجعولة فيهمامن ناحية الدين،
وقد فصلنا القول في هذه كلها.
3 ما رواه من قصة كعب الاحبار: لقد اقراناك الماثور من هذه
القصة وكيفية الحال فيها واختلاف الفاظها،وليس في شي‏ء
منها اكثر ما لفقه الالوسي من قول الرجل لابي ذر: ان الملة
الحنيفية. الخ. ومن استعاذته‏بظهر عثمان، وعدم اكتراث ابي‏ذر
لذلك ووقوع الضربة على عثمان، وليته ذكر لما تقوله مصدرا
ولو من اضعف‏الكتب او من مدونات القصاصين، لكنه اراد ان
ينشب على ابي ذر ثورة وهو في
عالم‏البرزخ‏بوقوع‏الضربة‏على‏عثمان، غير انه‏اخفق
ظنه‏واكدى‏امله بفضل‏التنقيب‏الصحيح.
ونذكر لك هنا لفظ احمد في مسنده ((1607)) (1/63) من
طريق مالك بن عبداللّه الزيادي عن ابي ذر: انه جاءيستاذن
على عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) فاذن له وبيده عصاه،
فقال عثمان (رضي اللّه عنه): يا كعب‏ان‏عبدالرحمن توف ي
وترك مالا، فما ترى فيه؟ فقال: ان كان يصل فيه حق اللّه فلا
باس [عليه]. فرفع ابوذر عصاه فضرب كعبا وقال: سمعت رسول
اللّه(ص) يقول: «ما احب لو ان لي هذا الجبل ذهبا انفقه
ويتقبل‏مني اذر خلفي منه ست اواق‏». انشدك اللّه يا عثمان
اسمعته؟ ثلاث مرات. قال: نعم.
ومنه يتجلى انها قضية في واقعة ترجع الى مال عبدالرحمن بن
عوف الذي ترك ذهبا قطع بالفؤوس حتى‏مجلت ايدي الرجال
منه، وبلغ ربع ثمنه ثمانين الفا، وقد اعط‏ي له ذلك بغير
استحقاق من مال اللّه الذي‏يستوي فيه المسلمون، فكانت اثرة
ممقوتة واكتنازا منهيا عنه، وما كانت فتوى كعب تبرر شيئا من
عمله،لانه لم يكن من نماء زرع او نتاج ماشية او ربحا من تجارة
حتى يطهره اخراج حقوق اللّه منه،وانما كان المال‏كله للّه،
وافراد المسلمين فيه شرع سواء، وان كان لابن عوف فيه حق
فعلى زنة بقية المسلمين‏فحسب.
والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه الى كعب خاصة وهو
يهودي قريب العهد بالاسلام وفي‏المنتدى مثل ابي ذر عالم
الصحابة، والمستفتي جد عليم بحقيقة ذلك المال لانه هو
الذي ادره عليه جزاءحسن اختياره للخلافة يوم الشورى، ولم
تكن ثروته الشخصية تفي بتلكم العطايا الجزيلة، فليس
لهامدرالا مال اللّه، فعلى ابي‏ذر البصير بمواقع احكام الشرع ان
ينكر تلكم المنكرات على من استباح ذلك‏العطاء، وعلى من
استباح اخذه واكتنازه، وعلى من حاول ان يبر ر تلكم الاعمال.
(ولتكن منكم امة يدعون‏الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون
عن المنكر واولئك هم المفلحون).
وان كانت توجب نظرية ابي ذر هذه الشيوعية او الاشتراكية
فقد سبقه اليها الخليفة الثاني ببيان اوفى‏وتقرير اوضح، اخرجه
الطبري في تاريخه ((1608)) (5/33) من طريق ابي وائل، قال:
قال عمر بن الخطاب(رضي اللّه عنه): لو استقبلت من امري ما
استدبرت لاخذت فضول اموال الاغنياء فقسمتها على
فقراءالمهاجرين.
واخرجه ابن حزم في المحلى (6/158) فقال: هذا اسناد في
غاية الصحة والجلالة.
وفي عصر المامون ((1609)) (1/2): حرم عمر بن الخطاب على
المسلمين اقتناء الضياع والزراعة لان ارزاقهم‏وارزاق عيالهم
وما يملكون من عبيد وموال، كل ذلك يدفعه لهم من بيت
المال، فما بهم الى اقتناء المال من‏حاجة.
نعم، عزبت عن اللجنة نظرية الخليفة الثاني في ناحية المال، او
ان عظمة الخلافة صدتهم عن‏الجراة عليه،لكن ابا ذر لم يكن
خليفة فتمنعهم عظمته عن التقول عليه، وقد مات في المنفى
فريدا وحيدا لا يجد من يعينه‏او يدافع عنه او يجهزه بعد موته
فيتوثب عليه حتى الخنافس والديدان، غير ان له يوما آخر
يحشر فيه امة‏واحدة، هنالك تبلى السرائر ويعلم ما ارته ابو ذر
وما رمي به، ذلك يوم مشهود له الناس، والحكم هنالك‏للّه
الواحد القهار.
4 ما عزا اليه من الحدة، وهو ينافي تشبيه رسول اللّه (ص) اياه
بعيسى بن مريم في هديه وخلقه ونسكه‏وزهده ((1610)) فهو
ممثل المسيح (ع) في هذه الامة، وانى تقع الحدة منه؟ الا ان
يدعوه اليها الدين كما هو من‏خصال المؤمنين الموصوفين
بالوداعة بينهم، والخشونة في ذات اللّه، وابو ذر في الرعيل
الاول منهم، فليس‏من المستطاع ان نخضع لصحة هذه الرواية،
وفيها الوقيعة من ابي ذر فيمن يعلم ان رسول اللّه (ص)
يقربه‏ويدنيه ويحبه.
فلا تكاد تنهض حجة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح، لان
المعلوم من حال ابي ذر هو ما اخبر به‏النبي الصادق الامين،
وعلى فرض صحتها قضية في واقعة لا تعدو ان تكون فلتة
ليست لها لدة، ولعلهاصدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب
اليه شراح صحيح البخاري ((1611)) وبمثلها لا يمكن ان تثبت
لابي ذرغريزة الحدة فيحمل ما صدر منه في المقام عليها.
وكان الرجل هاهنا ذهل عما ذكره في كتابه مسائل الجاهلية
(ص‏129) من قوله: ان ابا ذر (رضي اللّه عنه)قبل بلوغه المرتبة
القصوى من المعرفة تساب هو وبلال الحبشي المؤذن فقال له:
يابن السوداء. فلما شكابلال الى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه
وآله وسلم قال له: «شتمت بلالا وعيرته بسواد امه؟» قال:
نعم.قال: «حسبت انه بقي فيك شي‏ء من كبر الجاهلية‏». فالقى
ابو ذر خده على التراب ثم قال: لا ارفع خدي حتى‏يطا بلال
خدي بقدمه. انتهى.
وهكذا رواه البرماوي، وذكره القسطلاني في ارشاد الساري
(1/113) وقال: زاد ابن الملقن: فوطاخده. ((1612))
هذا ابو ذر وهذا ادبه وكرم اخلاقه، وانه لعلى خلق عظيم.
5 ما ادعاه من كثرة المتعرضين لابي ذر... الخ. ليته سمى
واحدا من اولئك المتعرضين، او سمى مصدرا ولومن اتفه
المصادر يصافقه على هذه الدعوى، وانما كانت الصحابة يومئذ
بين مصافق لابي ذر على هتافه،ومسل له على نكبته، ومستاء
على ما اصابه من الاذى، وناقم على من فعل به ذلك، لم يكن
عندئذ من‏يردعليه قوله ويحفظ آية المواريث، وابو ذر ناسيها
وهو وعاء ملئ علما بشهادة من اعلم الام ة باب مدينة‏علم النبي
صلى اللّه عليهما وآلهما.
كان من العزيز على صلحاء الصحابة المناباة ((1613)) بالفادح
الجلل تسيير ابي ذر الى الربذة لكرههم ذلك ونبو((1614))
سمعهم عنه، وكان الصحابي الصالح يسترجع مرارا لما قرع
سمعه ذلك النبا المزري، وكان يقول: ارتقبهم‏واصطبر، اللهم
ان كذبوا ابا ذر فاني لا اكذبه، اللهم وان اتهموه فاني لا اتهمه،
اللهم وان استغشوه فاني لااستغشه، فان رسول اللّه (ص) كان
ياتمنه حين لا ياتمن احدا، ويسر اليه حين لا يسر الى احد
. ((1615))
ولعل الالوسي يريد بمن ذكرهم من المتعرضين طغمة آل امية
المتخذين مال اللّه دولا، وعباده خولا، ودينه‏دخلا، وكتابه
دغلا، غير انهم ما كانوا يجادلون بالقرآن، وما كانوا يعرفون منه
الا ظاهرا من قوله تعالى:(ولا تنس نصيبك من الدنيا)
((1616))
وكانت مجادلتهم مجالدة بالحراب والعتاد، وكان قولهم في
ذلك صخبا وجلبة، فتبعهم الالوسي تحت جامع‏النزعة.
6 حسبانه بان خروجه الى الربذة كان مللا منه من تعرض
الناس وازدحامهم عليه مستغربين منه رايه،بعد ان استشار
عثمان فاشار اليه بالذهاب اليها فسكن فيها حسبما يريد. وهذه
اكذوبة اخرى، فقد مر فيماتقدم انه نفي الى الربذة، ومنع
الناس عن مشايعته، فلم يدن منه احد الا مولانا امير المؤمنين
(ع) وابناه‏الامامان وعمار معهم، وما جرى بينهم وبين مروان،
ثم ما جرى بين الامام وبين عثمان، وما قال له مشايعوه‏من
كلمات التسلية، وما قاله ابو ذر نفسه لمن زاره في الربذة،
وقول عثمان لعمار: يا عاض اير ابيه اتحسب اني‏ندمت من
تسييره؟ الى كلمات اخرى كلها صريحة في تسييره على صورة
غير مرضية، ونقمة الصحابة‏جمعاء على من فعل به ذلك. وقد
عرفت قبل هذه كلها اخبار رسول اللّه (ص) بذلك النفي
والاخراج بالرغم‏من اشواق ابي ذر المحتدمة على جواره مرقد
النبي الاعظم، فراجع تفاصيل هذه الجمل فيما تقدم
من‏صحائف هذا الجزء. لكن الالوسي اراد ان يخفف وطاة النقد
على من والاه و رد النقمة عنه فصدر للقصة‏صورة خيالية،
وحسب ان التنقيب لا يكشف عن عوارها، وليت اللجنة الحاكمة
لم تتغافل عن ان هذه‏الجملة الاخيرة تنافي ما استشهدت به
من كلام ابني كثير وحجر، فقد اعترفا بان خروج ابي‏ذر الى
الربذة‏كان تسييرا بلا اختيار منه، غير انهما حاولا الاعتذار عن
قبل من ارتكب ذلك.
7 قوله: هذا ما يعول عليه في هذه القصة... الخ. انظر الى هذا
الرجل كيف يحاول ان يغمط الحقائق الثابتة‏حسب ميوله
واهوائه، وهو يزعم ان الامة ستتخذ ما لفقه اصلا متبعا، فتمحو
الكتب وتلقي الستار على‏صفحة التاريخ، وتحذف الاحاديث من
مدوناتها، وتضرب صفحا عن غير كتابه مما ثبت فيها كل ما نفاه
هوكما قدمنا لك ذلك في ابحاثنا هذه. وقصارى القول ان
العلماء في هذه المسالة فريقان: فقسم سرد تلكم‏الاحوال سردا
تاريخيا او اخرجها اخراج الحديث من غير تعرض لما لها او عليها
وقد عرفت هؤلاء،وفريق يعترف بكل ما هنالك غير انه يعتذر
عمن ارتكب هاتيك الاحوال بانها كانت لحفظ ابهة
الخلافة،وصيانة منصب الشريعة، واقامة حرمة الدين ((1617))
وليس احد من هؤلاء من الشيعة حتى يجعل الالوسي‏روايتهم
غير معول عليها، وهل من الجائز ان لا يتفطن اعلام القوم
وحفاظهم في كل تلكم القرون الخالية لماجاء به الالوسي،
وحسبوا اولئك ما روته الشيعة صحيحا وجعلوه من مطاعن
عثمان المتسالم عليه عندهم،وجاؤوا ينحتون له الاعذار في
تبريره؟ وبعد هذه كلها فلا عذر للجنة الحاكمة في ان تعتمد
على مثل هذه‏الكلمة التي مزيجها الكذب، وحشوها الاغلاط،
والعوار مكتنف بها من شتى نواحيها، هذا حال الشاهدالاول
الذي استشهدت به اللجنة الحاكمة.
الشاهد الثاني: اما شاهد اللجنة الثاني وهو ابن كثير، وما ادراك
ما ابن كثير؟ وما ادراك ما كتاباه في التفسيروالتاريخ؟ مجاميع
الفحش، وموسوعات البهت، وكراريس الدجل، ومن تدجيله
هاهنا ما ادعاه من نسبة‏تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال
الى ابي ذر وانه كان يفتي به ويحثهم عليه... الخ. على حين انه
لا يوجدلابي ذر اي فتوى تصرح او تلوح بذلك التحريم او حث
له على ذلك او امر به او تغليظ فيه غير ما لفقه‏الافاكون في
الادوار المتاخرة من عزو مختلق، نعم، وربما يتخذ مصدرا لهذه
الافائك ماشوه به الطبري‏صحيفة تاريخه من مكاتبة السري
الكذاب من طريق شعيب المجهول عن سيف الساقط المتهم
بالزندقة،الذين عرفت موقفهم من الدين والصدق والامانة
وعرفت حال روايتهم خاصة في (ص‏326 328)، وغيرخاف
ذلك على مثل ابن كثير ومن لف لفه، لكنهم نبذوا الرجل نبذة
ليسقطوه عن محله، ويسقطوا آراءه عن‏الاعتبار فتشبثوا
بالحشيش كالغريق، لكنهم خابوا وفشلوا، وانما الماثور عنه
تلاوة الاية الكريمة، ونقل‏السنة الواردة عن نبي الاسلام في
اكتناز الذهب والفضة، واما الاية الكريمة فقد عرفت مقدار
دلالتهاوان‏الخلاف الواقع بين ابي ذر ومعاوية ان ما هو بالنسبة
الى نزولها دون المفاد، وانه لو صحت النسبة لوجب‏قذفهما معا
او تبرئتهما معا.
على ان لابي ذر في ما ادعاه من شان الاية مصافقين، فروى
ابن كثير نفسه عن ابن عباس: انها عامة. وعن‏السدي انه قال:
هي في اهل القبلة. فهو ايضا يوافقه في الجملة.
وفي تفسير الخازن ((1618)) (2/232): قال ابن عباس
والسدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وقال‏القرطبي
في تفسيره ((1619)) (8/123): قال ابو ذر وغيره: المراد بها
اهل الكتاب وغيرهم من المسلمين، وهوالصحيح لانه لو اراد
اهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون بغير (والذين) فلما قال:
(والذين) فقد استانف‏معنى آخر يبين انه عطف جملة على
جملة، فالذين يكنزون كلام مستانف وهو رفع على الابتداء،
قال‏السدي: عنى اهل القبلة.
وقال الزمخشري في الكشاف ((1620)) (2/31): ويجوز ان يراد
المسلمون الكانزون غير المنفقين. وقال البيضاوي‏في تفسيره
((1621)) (1/499): ويجوز ان يراد به المسلمون الذين
يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه. وقال‏الشوكاني في
تفسيره ((1622)) (2/339): والاولى حمل الاية على عموم
اللفظ فهو اوسع من ذلك. وقال الالوسي‏في تفسيره (10/87):
والمراد من الموصول اما الكثير من الاحبار والرهبان، واما
المسلمون وهو الانسب‏لقوله: (ولا ينفقونها في سبيل اللّه).
فراي ابي ذر اخذا بمجاميع هذه الكلمات، هو الصحيح والانسب
والاولى، وما تفرد به بل ذهب اليه‏آخرون، فلماذا لا يقذفون
هؤلاء بما قذف به ابو ذر؟ وهل لابي ذر حساب آخر يسوغ الفرية
عليه دون‏اولئك؟ نعم. نعم.
واما السنة فقد روى نظير ما رواه غير واحد من الصحابة، لكن
القوم لم يضمروا على احد منهم من الحقدما اضمروه على ابي
ذر لمكان رايه في الامامة منذ الصدر الاول، ونزعته العلوية
التي لم يزل مجاهرا بها،ومناواته للبيت الاموي، فحاولوا تشويه
ذكره وتفنيد رايه بكل ما تيسر لهم، فمن اولئك الصحابة:
1 عبداللّه بن مسعود، قال: دخل النبي (ص) على بلال وعنده
صبرة من تمر فقال: «ما هذا يا بلال؟» قال:اعد ذلك لاضيافك.
قال: «اما تخشى ان يكون لك دخان في نار جهنم؟ انفق بلال
ولا تخش من ذي العرش‏اقلالا».
رواه البزار ((1623)) باسناد حسن والطبراني في الكبير
((1624)) وقال: «اما تخشى ان يفور له بخار في نار جهنم‏».
2 ابو هريرة، قال: ان النبي (ص) عاد بلالا فاخرج له صبرا من
تمر فقال:
«ما هذا يا بلال؟» قال: ادخرته لك يا رسول اللّه، قال: «اما تخشى
ان يجعل لك بخار في نار جهنم؟ انفق يابلال ولا تخش من ذي
العرش اقلالا».
((1625)) ابو يعلى والطبراني في الكبير والاوسط باسناد رواه
حسن.
3 اسماء بنت ابي بكر، قالت: قال رسول اللّه (ص): «لا توكي
فيوكى عليك‏». وفي رواية: «انفقي او انفحي‏ او انضحي ولا
تحصي فيحصي اللّه عليك، ولا توعي فيوعي اللّه عليك‏». رواه
البخاري ومسلم وابوداود. ((1626))
4 بلال مرفوعا: «يا بلال مت فقيرا ولا تمت غنيا»، قلت: وكيف
لي بذلك؟ قال «ما رزقت فلا تخبا، وماسئلت فلا تمنع‏». فقلت:
يا رسول اللّه وكيف لي بذلك؟ قال: «هو ذاك او النار».
رواه الطبراني في الكبير ((1627))، وابن حبان في كتاب
الثواب، والحاكم ((1628)) وصححه.
5 انس بن مالك، قال اهديت للنبي ثلاث طوائر فاعط‏ى
خادمه طائرا، فلما كان من الغد اتته بها، فقال لهارسول اللّه
(ص): «الم انهك ان ترفعي شيئا لغد؟ فان اللّه ياتي برزق غد».
رواه ((1629)) ابو يعلى والبيهقي، ورجال‏ابي يعلى ثقات.
6 انس بن مالك، قال: كان رسول اللّه (ص) لا يدخر شيئا لغد.
رواه ((1630)) ابن حبان في صحيحه والبيهقي.
7 سمرة بن جندب، مرفوعا: «اني لالج هذه الغرفة ما الجها الا
خشية ان يكون فيها مال فاتوفى ولم انفقه‏».رواه الطبراني في
الكبير ((1631)) باسناد حسن.
8 ابو سعيد الخدري، مرفوعا: «ما احب ان لي احدا ذهبا ابقى
صبح ثالثة وعندي منه شي‏ء الا شي‏ء اعده‏لدين‏» ((1632)).
رواه البزار وهو اسناد حسن وله شواهد كثيرة.
9 ابو امامة: ان رجلا توفي على عهد رسول اللّه (ص) فلم
يوجد له كفن، فاتي النبي (ص) فقال: «انظرواالى داخلة ازاره‏»
فاصيب دينار او ديناران، فقال: «كيتان‏» ((1633)).
10 توفي رجل من اهل الصفة فوجد في مئزره دينار، فقال
رسول اللّه(ص): «كية‏». ثم توفي آخر فوجد في‏مئزره ديناران،
فقال رسول اللّه (ص): «كيتان‏».
رواه ((1634)) احمد والطبراني من عدة طرق، وابن حبان في
صحيحه من طريق عبداللّه بن مسعود.
11 سلمة بن الاكوع، قال: كنت جالسا عند النبي (ص) فاتي
بجنازة ثم اتي باخرى فقال: «هل ترك من‏دين؟» قالوا: لا. قال:
«فهل ترك شيئا؟» قالوا: نعم ثلاثة دنانير. فقال باصبعه: «ثلاث
كيات‏».
اخرجه ((1635)) احمد باسناد جيد وابن حبان في صحيحه
باللفظ المذكور والبخاري نحوه.
12 ابو هريرة: ان اعرابيا غزا مع رسول اللّه (ص) خيبر، فاصابه
من سهمه ديناران فاخذهما الاعرابي،فجعلهما في عباءة فخيط
عليهما ولف عليهما، فمات الاعرابي فوجد الديناران، فذكر
ذلك لرسول اللّه (ص)فقال: «كيتان‏».
رواه احمد ((1636)) واسناده حسن لاباس به.
هذه جملة من تلكم الاحاديث، وقد جمعها الحافظ المنذري
في الترغيب والترهيب ((1637)) (1/253 258).
13 اخرج احمد في مسنده ((1638)) (1/300) من طريق ابن
عباس قال: ان النبي(ص) التفت الى احد فقال:«والذي نفس
محمد بيده ما يسرني ان احدا يحول لال محمد ذهبا انفقه في
سبيل اللّه اموت يوم اموت ادع‏منه دينارين، الا دينارين اعدهما
لدين ان كان‏».
14 اخرج ابن كثير نفسه في تفسيره (2/352) من طريق
عبداللّه بن مسعود: «والذي لا اله غيره لا يكون‏عبد يكنز فيمس
دينار دينارا ولا درهم درهما، ولكن يوسع جلده فيوضع كل
دينار ودرهم على حدته‏».
رواه سفيان عن عبداللّه بن عمر ((1639)) بن مرة عن مسروق
عن ابن مسعود، ورواه ابن مردويه عن ابي‏هريرة.
15 حكى ابن كثير ((1640)) عن ابي جعفر بن جرير الطبري
((1641)) من طريق ثوبان مرفوعا: «من ترك بعده‏كنزامثل له
يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يتبعه ويقول: ويلك ما انت؟
فيقول: انا كنزك الذي تركته‏بعدك. ولا يزال يتبعه حتى يلقمه
يده فيقضمهاثم يتبعها سائر جسده‏». قال: ورواه ابن حبان في
صحيحه((1642)).
16 ونقل في (ص‏353) عن ابن ابي حاتم باسناده من طريق
ثوبان مرفوعا: «ما من رجل يموت وعنده‏احمر او ابيض الا جعل
اللّه بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه الى ذقنه‏».
17 وذكر ((1643)) عن ابي يعلى بالاسناد من طريق ابي
هريرة مرفوعا:
«لايوضع الدينار على الدينار، ولا الدرهم على الدرهم، ولكن
يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم‏وظهورهم هذا ما
كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون‏».
18 اخرج احمد ((1644)) من طريق عبداللّه بن ابي الهذيل،
قال: حدثني صاحب لي: ان رسول اللّه (ص) قال:«تبا للذهب
والفضة‏» وقال: انه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول
اللّه! قولك: «تبا للذهب والفضة‏».ماذا ندخر؟ قال رسول اللّه
(ص): «لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين على الاخرة‏».
تفسير ابن كثير(2/351).
19 اخرج ((1645)) احمد والترمذي وابن ماجة من طريق
سالم بن ابي الجعد عن ثوبان قال: لما نزلت في‏الذهب والفضة
ما نزل قالوا: فاي المال نتخذ؟ قال عمر: فانا اعلم لكم ذلك
((1646)) على بعير، فادركه((1647)) وانا في اثره، فاوضع
فقال: يارسول اللّه اي المال نتخذ؟ قال: «قلبا شاكرا، ولسانا
ذاكرا، وزوجة تعين احدكم‏على امر الاخرة‏».
20 وقبل هذه كلها ما اخرجه امام الحنابلة احمد في مسنده
((1648)) (1/62) من طريق عثمان بن عفان من‏ان‏رسول اللّه
(ص) قال: «كل شي‏ء سوى ظل بيت، وجلف ((1649)) الخبز،
وثوب يواري عورته والماء، فمافضل عن هذا فليس لابن آدم
فيهن حق‏». واخرجه ابو نعيم في حلية الاولياء (1/61).
هذه الاحاديث اخرجها ائمة الفقه وحفاظ الحديث واعلام
التفسير في تليفهم محتجين بها لما ارتاوه من‏الترغيب الى
الزهد والتطوع بالانفاق، والترهيب عن الاكتناز والادخار، ولم
يتكلم احد منهم في راو من‏رواتها، وما اتهم في اي منهم بما
اتهم به ابو ذر، فان كان للتاويل والحمل على معنى صحيح
فيها مجال فهي‏وما رواه ابو ذر على شرع سواء، فاي وازع عن
تاويل ما جاء به ابو ذر؟ ولماذا رشقوه بين اولئك الصحابة‏بنبال
القذف؟ مع ان ابا ذر لم يكن هتافه ذلك للدعوة الى تهذيب
النفس بالزهادة في حطام الدنيا والفوزبمراتب الكمال، وانما
كان نكيره على امة اتخذت كنوزا مكدسة من الذهب والفضة
على غير وجه حلها، كمافصلنا القول في ذلك تفصيلا.
واذ لم يجد ابن كثير شاهدا قويما لما ادعاه من اقوال ابي ذر
تشبث بعمله، فقال: وقد اختبره معاوية (رضي‏اللّه عنه) وهو
عنده، هل يوافق عمله قوله؟ فبعث اليه بالف دينار ففرقها من
يومه، ثم بعث اليه الذي اتاه‏بها فقال: ان معاوية انما بعثني الى
غيرك فاخطات فهات الذهب، فقال: ويحك انها خرجت، ولكن
اذا جاءمالي حاسبناك به ((1650)).
وليس فيه الا زهد ابي ذر المهلك سبده ولبده ((1651))، ولم
يكن عمله هذا عن فتوى ولا ايجاب، وانما كان‏تطوعاومبالغة
في الزهادة والجود، وقد سبقه الى ذلك سيد البشر (ص)، عاش
(ص) كما عرفت ومات ولم‏يدع دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا
امة ولا شاة ولا بعيرا، وترك درعه رهنا عند يهودي بثلاثين
صاعا من‏شعير ((1652)) وحذا حذوه آله سلام اللّه عليهم الذين
كانوا (يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما
واسيرا)،(ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة) (الذين
آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم‏راكعون)
((1653))، (الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية)
((1654)) وقد خرج الامام السبط الحسن‏الزكي‏من ماله مر
تين. وقاسم اللّه عز وجل ماله ثلاث مرار حتى ان كان ليعط‏ي
نعلا ويمسك نعلا، ويعط‏ي‏خفا ويمسك خفا ((1655)).
وما اكثر الزهاد امثال ابي ذر في امة محمد (ص)، وقد افنت
الزهادة كل مالهم من ثمة ورمة ((1656)) وقد عد ذلك‏في
الجميع فضيلة يذكرون بها ويشكرون عليها، الا في ابي ذر
شبيه عيسى بن مريم في الامة المرحومة‏فاتخذوه مدركا لتلك
الفتوى المزعومة. غفرانك اللهم واليك المصير.

استشهاد اللجنة بكلمة ابن حجر
اما الشاهد الثالث ابن حجر فليت اللجنة الحاكمة لم تلخص
كلامه، ففيما سرده في فتح الباري((1657))(3/213) ما لا
يلائم خطة اللجنة، ففيه من اعلام النبوة ما قدمنا ذكره من
عهد النبي (ص) بذلك النفي‏والاخراج في سياق يؤدي ان ابا ذر
سيكون مضطهدا في ذلك مظلوما، ويؤكد هذا السياق ما
اسلفناه من‏قوله (ص): «يا ابا ذر انت رجل صالح وسيصيبك بلاء
بعد». قال: في اللّه؟ فقال (ص): «في اللّه» قال:مرحبابامر اللّه. وما
كان في اللّه وبعين اللّه ويعرف (ص) صاحبه بالصلاح، ويراه في
هديه ونسكه وزهده‏شبيه نبي‏معصوم كعيسى سلام اللّه عليه،
ويامره بالصبر لا يكون فاسدا ولا تترت ب عليه مفسدة، اذن
فلاادري اين يكون مقيل نظرية ابن حجر الملخصة عند اللجنة
من الصدق؟
ومما ذكره ابن حجر في فتح الباري ما حكاه عن بعض اعلام
قومه: الصحيح ان انكار ابي‏ذر كان‏على‏السلاطين‏الذين
ياخذون‏المال لانفسهم ولا ينفقونه‏في وجهه.
نعم هذا هو الصحيح كما قدمناه في صفحة (335) ويعرفه كل
من سبر التاريخ والحديث. اذن فليس من‏المتسالم عليه ما
حاوله ابن حجر في ملخص قوله وتحرته اللجنة في حكمها
والاستشهاد بكلامه، مثل هذاالاساس لا تبنى عليه برهنة، ولا
يصح به حكم لاي انسان او عليه، لكن ابن حجر قال، واللجنة
حكمت،والقوة نفذت ذلك الحكم، فانا للّه وانا اليه راجعون.
هؤلاء شهود اللجنة الحاكمة، وقد اختبرت انت ايها القارئ
حالهم ومقالهم، اذن فما ظنك بما ابتنوه على ذلك‏من شفا
جرف هار؟ (نحن اعلم بما يقولون وما انت عليهم بجبار فذكر
بالقرآن من يخاف وعيد) ((1658)).
ها هنا اكرر مخاطبة اللجنة بان دليلها في اثبات شيوعية ابي
ذر غير ناهضة لاثبات ما ترتئيه، لان نظرية‏ابي ذر على ما اد
عته هي وجوب انفاق ما فضل عن حاجة الانسان، ومقتضاه انه
يملك التصرف في قدرالحاجة، والشيوعي لا يقول بذلك وانما
يحاول الغاء الملكية راسا، ثم ان الحكومة الشيوعية تدر عليه
قدرالحاجة او بمقدار العمل صونا لحياته فهو كالاجير عندها
يقتات بما يعمل او كعائلتها تسد عيلتها بمقدارخلتها، على ما
قدمناه من ان راي ابي ذر لا يستوعب المال كله وانما يريد
الاخراجات الواجبة وما تدعواليه العاطفة البشرية والمروءات
من الاعطيات المندوبة، فاللجنة لم تعط النصفة حقها في
اسناد ما اسندته‏الى ابي ذر، كما انها لم تؤد حق الرد على
الشيوعية الممقوتة، فهي مائنة فيما تقول خبريا او مخبريا،
وجائرة في‏حكمها من حيث لا تشعر.
كان حقا علينا ان ننظر في بقية الكلمات المقولة في شيوعية
ابي ذر على وجه التفصيل ككلمة الخضري في‏المحاضرات
(2/36، 37) وعبد الحميد بك العبادي عميد كلية الاداب في
صور من التاريخ الاسلامي(ص‏109 113) تحت عنوان: ابو ذر
الغفاري. واحمد امين في فجر اسلامه (1/136) ((1659))
ومحمد احمد جادالمولى بك في: انصاف عثمان (ص‏41 45)،
وصادق ابراهيم عرجون في: عثمان بن عفان (ص‏35)،
وعبدالوهاب النجار في: الخلفاء الراشدون (ص‏317)، ومن حذا
حذوهم ممن اقتحم معارك التاريخ والابحاث‏الخطرة من دون
منة ((1660)) علمية تنقذهم من القحمة وصرعة الاسترسال
التي لا تستقال، لكنهم لم يالواباكثر مما فندناه، غير ما ذكره
بعضهم ((1661)) من ان ابا ذر اخذ المبدا الشيوعي من عبد اللّه
بن سبا استنادا الى‏رواية الطبري السابقة في(ص‏326 و349)
عن‏السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن
يزيدالفقعسي، وقد عرفناك هنالك ما في رجالها من افاك
وضاع، او معتد اثيم، او ضعيف متفق على ضعفه، اومجهول لا
يعرف، وما في متنها من ملامح الكذب وآثار الافتعال.
على ان عبد اللّه بن سبا المعروف باليهودية والافساد وتفريق
كلمة المسلمين الذي عزوا اليه ثورة المصريين،وانه يمم
الحواضر الاسلامية لالقاح الفتن واثارة الملا على خليفة الوقت،
وبث تلكم المبادئ التعيسة، ولم‏ينظر اليه رامق شزرا، ولا وقع
عليه قبض من سلطات الوقت، ولا اصابه نفي عن الاوساط
الدينية، وقدترك يلهو ويلعب كما تشاء له الميول والشهوات،
لكن النقمات كلها توجهت على الابرار من صحابة محمد(ص)
والتابعين لهم باحسان كابي ذر، وعبداللّه بن مسعود، وعمار بن
ياسر، ومالك بن الحارث الاشتر،وزيد وصعصعة ابني صوحان،
وجندب بن زهير، وكعب بن عبدة الناسك، ويزيد الارحبي
العظيم عندالناس، وعامر بن قيس الزاهد الناسك، وعمرو بن
الحمق المعروف بدعاء النبي (ص) له، وعروة البارقي‏الصحابي
الجليل، وكميل بن زياد الثقة الامين، والحارث الهمداني
الفقيه الثقة ((1662)) فمن منفي هلك في تسييره،الى
مضروب كسرت اضالعه، الى مهان توجهت اليه لسبات الالسن.
وقبل هؤلاء مولانا امير المؤمنين صالح الامة، يراه عثمان احق
بالنفي من اولئك كما ياتي حديثه، واخرجه الى‏ينبع مرة بعد
اخرى ليقل هتاف الناس باسمه للخلافة، وقال لابن عباس:
اكفني ابن عمك. وقال ابن عباس:ابن عمي ليس بالرجل يرى
له، ولكنه يرى لنفسه فارسلني اليه بما احببت. قال: قل له
فليخرج الى ماله‏بينبع فلا اغتم به ولا يغتم بي. فاتى عليا
فاخبره، فقال: «ما اتخذني عثمان الا ناضحا» ثم انشد يقول:
فكيف به اني اداوي جراحه
فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء
وقال: «يابن عباس ما يريد عثمان الا ان يجعلني جملا ناضحا
بالغرب ((1663)) اقبل وادبر، بعث الي ان اخرج،ثم‏بعث الي ان
اقدم، ثم هو الان يبعث الي ان اخرج واللّه لقد دفعت عنه حتى
خشيت ان اكون آثما» ((1664)).
فهلا كان ابن سبا واصحابه بمراى من الخليفة ومسمع وقد
طغوا في البلاد واكثروا فيها الفساد، وكيف بهضه‏امر اولئك
الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر ولا يهمه قمع تلكم
الجرثومة الخبيثة باجتثاث اصلهاباعدام عبداللّه بن سبا، او
صلبه على جذوع النخل، او قطع يده ورجله من خلاف، او نفيه
من‏الارض؟
هلا كان واجب الخليفة ان يشاور صلحاء الصحابة في الرجل
الضال المضل، بدل ما شاور ابناء بيته الساقط‏في ابي ذر العظيم
بقوله القارص: اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب، اما ان اضربه
او احبسه او اقتله، فانه‏قد فرق جماعة المسلمين، او انفيه من
ارض الاسلام ((1665))؟
نعم، كان عبداللّه بن سبا من جراثيم العيث والفساد، وجذوم
الكفر والالحاد، ولم يفتا يتقلب بين المسلمين‏بنواياه السيئة
وان لم يثبت عنه المبدا الشيوعي قط، ولا اثارة الثائرين على
عثمان الا بمكتوبة السري، عن‏شعيب، عن سيف المكذوبة
الساقطة التي لا قيمة لها في سوق الاعتبار ((1666)) فان
المسلمين خصوصا الثائرين‏على عثمان والمتجمهرين عليه،
وهم جل الصحابة لو لم نقل كلهم كما ياتي تفصيله في
الجزء التاسع باذن‏اللّه وخصوصا من لاث بمولانا امير المؤمنين
من علية الصحابة كابي ذر وعمار ومالك الاشتر وابني‏صوحان
وامثالهم ما كانوا يقيمون وزنا لنعرات اي ابن انثى تجاه ما
اتخذوه من مستقى الوحي، فضلا عن‏مثل ابن سبا المعروف
عندهم ملكاته ونزعاته في امسه ويومه ذاك، فانى يصيخون الى
ماله من هلجة وهم‏رجال الفكرة الصالحة في المجتمع الديني،
ولم يثبت التاريخ الصحيح اتصال احد منهم بهذا الرجل فضلا
عن‏تاثيره في نفسياتهم واثارة الفتن في المجتمع الديني
بايديهم، وهلا كان خليفة الوقت اراح المسلمين من
شره‏بتشتيت شمله وتمزيق جمعه، كما فعله مولانا امير
المؤمنين (ع)، فقطع عن اديم الارض اصول تلك
النزعات‏الوبيلة بالقاء الدخان على حامليها، كما مر في الجزء
السابع (ص‏156)، وذكره ابن حزم في الفصل(4/186).

كلمتنا الاخيرة
لو درست الاساتذة حقيقة الشيوعية وما يهتفون به من اصولها
وحقيقة ابي ذر العالم الصحابي ونظرائه ومايؤثر عنهم من قول
وعمل واحاديث جاءت فيهم عرفوا البون الشاسع بين المبداين،
وان مثل ابي ذر لايكون شيوعيا مهما اسف من اوج عظمته
وانكفا عن صهوة علمه، وتنازل عن مبادئه المقدسة، وانه
لايعتنق ذلك المذهب عالم وان قلت بضاعته، وضعفت منته
العلمية.
انى يهتف بالشيوعية ويعتنقها من وقف واطلع على ما جاء به
الاسلام المقدس في تامين مؤن الفقراءوسدعيلتهم، وما وطد
من مشارع تخفف عنهم ما يبهضهم من عب‏ء حزانتهم، وما
شرع لهم من منابع‏الحياة المادية في اموال الاغنياء، بقدر ما
يسعهم كما اخبر به النبي الاعظم بقوله: «ان اللّه فرض على
اغنياءالمسلمين في اموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن
يجهد الفقراء اذا جاعوا وعروا الا بما يصنع اغنياؤهم، الاوان اللّه
يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا اليما» ((1667)). فبعد
ترصيف السياسة المالية على احسن نظام‏وارقى منهج وتعبئة
ما يسد خلة الفقراء، سد عليهم ابواب السؤال والتكدي وشدد
النكير عليهما بمثل قوله(ص): «ان المسالة لا تصلح الا لثلاث:
لذي فقر مدقع، او لذي غرم مفظع، او لذي دم موجع‏»
((1668)). ورغبهم‏الى الاستعفاف والاستغناء عن الناس بكل ما
تيسر من العمل بقوله (ص): «لا ن ياخذ احدكم حبلا
فياتي‏الجبل فيجي‏ء بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها
فيستغني بها خير له من ان يسال الناس اعطوه اومنعوه‏»
((1669)) وقرر على اهل اليسار للفقراء والمساكين حقوقا
محدودة من شتى النواحي بعناوين مختلفة‏كرواتب سنوية او
كجراية شهرية تتعلق بالانعام والغلات والنقدين وارباح
المكاسب والركاز والمعادن‏والانفال وغيرها من الواجب المالي
المقرر، مضافا على ما قد يجب على الانسان حينا بعد حين
لموجب‏هنالك كالكفارات والنذور والمظالم.
واما التطوع بالصدقات والانفاق مما فضل وهو الذي كاد ان يعد
من فروض الانسانية فحدث عنه ولاحرج، وقد بالغ الصادع
الكريم في الحث عليه ومر شطر من احاديثه، واخرج مسلم
والترمذي((1671))وغيرهما من طريق ابي امامة ((1670))
مرفوعا: «يابن آدم انك ان تبذل الفضل خير لك، وان تمسكه
شر لك، ولاتلام على كفاف‏». الترغيب والترهيب ((1672))
(1/232، 252).
واخرج مسلم ((1673)) من طريق ابي سعيد الخدري مرفوعا:
«من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لاظهر له، ومن
كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له‏». سنن
البيهقي (4/182).
وفي صحيح مر في (ص‏354) قوله (ص): «على كل نفس في
كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على‏نفسه‏».
وللاسلام وراء هذه كلها آداب وسنن تعرب عن حرمة من قتر
عليه رزقه وعن كرامته في الملاالديني‏تصديقا للانكار الوارد
في قوله تعالى: (فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه ونعمه
فيقول ربي اكرمن‏-واما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي
اهانن - كلا) ((1674)). فامر كتابه المقدس بالانفاق من جيد
المال‏ونفيسه بقوله: (يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما
كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا
الخبيث منه تنفقون) الاية ((1675)). وقوله تعالى: (لن تنالوا
البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شي‏ءفان‏اللّه به عليم)
((1676)) ونهى عن نهر السائل وابطال الصدقات بالمن
والاذى ورياء الناس، فقال عز من‏قائل: (واما السائل فلا تنهر)
((1677)) وقال: (يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والاذى كالذي ينفق‏ماله رئءالناس‏ولا ى ؤم ن باللّه واليوم الاخر
فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلدا لا
يقدرون‏ع لى شي‏ء مما كسبوا) ((1678)). وقال: (الذين ينفقون
اموالهم في سبيل اللّه ثم لا يتبعون م انفقوا منا ولااذى لهم
اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ((1679)).
وقال: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة‏يتبعها اذى‏واللّه
غني حليم) ((1680)).
وقال النبي الاعظم (ص): «لا يقبل اللّه من مسمع ولا مراء ولا
منان، والمتحدث بصدقته يطلب السمعة،والمعط‏ي في ملا من
الناس يبغي الرياء» ((1681)).
واخرج مسلم في صحيحه ((1682)) مرفوعا: «ثلاثة لا يكلمهم
اللّه يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم‏عذاب اليم:
المنان بما اعط‏ى...». سنن البيهقي (4/191).
وذكر ابن كثير مرفوعا: «لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا
مدمن خمر». تفسير ابن كثير (1/318).
ولقطع اصول المن بالاعطاء وتنزيه نفوس اهل اليسار عن
الاستعلاء والترفع والعجب باعطياتهم، ومن كان‏غنيا
فليستعفف، وتطهير قلوب الفقراء الشريفة عما يعتريها من ذل
المسكنة، وتطييب خواطرهم من هوان‏بسط يد الاخذ الى
الاغنياء، قال رسول اللّه (ص): «ان الصدقة تقع بيد اللّه عز وجل
قبل ان تقع في يدالسائل‏» ((1683)).
وفي صحيح اخرجه مسلم ((1684)) (3/85) من طريق ابي
هريرة مرفوعا: «ما تصدق احد بصدقة من طيب آولا يقبل اللّه الا
الطيب الا اخذها الرحمن بيمينه وان كانت تمرة، فتربو في
كف الرحمن حتى تكون اعظم‏من الجبل‏». الحديث.
فيرى المعط‏ي المسلم وجهه الى اللّه وهو محسن انه مسلم الى
اللّه جل وعلا حقه مما خوله سبحانه بمنه اياه.والفقير يرى انه
آخذ من اللّه وباسط كفه الى اللّه ويد اللّه هي مدر الانعم، وهي
اليد العليا، وهي الوسيطة بين‏المعط‏ي والاخذ، وله المن
عليهما، (واللّه الغني وانتم الفقراء) ((1685)) (ان يكن غنيا او
فقيرا فاللّه اولى بهما) ((1686)).
فالشيوعي لا يكون شيوعيا الا ويغمره تيار الجهل الهائج، وان
سماسرة الشيوعية يمنعون قبل كل شي‏ء عن‏تحري العلم
الصحيح ويسوقون الملا الى مستوى الجهل والبساطة، ولعلك
لا تشك في ذلك متى جست‏خلال الديار في المملكة
السوفيتية ومن جنح اليها من اقطار الارض، فانك لا تجد من
يهملج الى الغاية‏الشيوعية الا الرجرجة الدهماء الذين لم يعطوا
من العلم شيئا، لكن البلاد الخصبة بالعلم والعلماء كلها
من‏اسلامي وغيره في منتاى من تلك الخسة، وكذلك كل من
اوتي نصيبا من العلم لا تدعه عقليته ان يسف الى‏تلكم الهوة
الوبيئة، وكيف بابي ذر وعاء العلم وامثاله؟
نعم، للبلاد الاسلامية خاصتها في الابتعاد عن هاتيك السفاسف
لوجود العلم الصحيح الناجع عند علمائها آلا ما جاءت به اللجنة
الحاكمة والمواد الحيوية المبثوثة في دينها الاسلامي
الحنيف، فهي وهم سدان قويان‏لدفع ذلك السيل الاتي، فليس
لمجابهة الشيوعية ومكافحتها شي‏ء اقوى من العلم والدين،
وتنوير فكرة‏الشعب الاسلامي بهما. فمن واجب الدول
الاسلامية وقد شعرت هي بهذا الواجب توسيع نطاق
العلم،وبث نواميس الدين، واحياء ناشئة الانسان الذي خلق
جهولا بروح الثقافة الدينية وتربية ابناء الوطن‏العزيز في صفوف
المدارس الابتدائية الى العالية بدراسة العلوم الناجعة، والتحفظ
على حقوق ضعفاء الامة،والاخذ بناصر اخي عيلة العائل باجراء
مقررات الدين المبين، وتعظيم العلماء الصالحين، وتقدير
رجالات‏الوعظ والخطابة لتستمر طهارة البلاد عن تلكم
الرجاسة، فحيا اللّه العلماء العاملين، وحيا اللّه
الحكومات‏الاسلامية، الناهضين بكلاءة العباد والبلاد.
(فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل آمنت
بما انزل اللّه من كتاب وامرت لاعدل بينكم اللّه ربناوربكم لنا
اعمالنا ولكم اعمالكم لا حجة بيننا وبينكم اللّه يجمع بيننا
واليه المصير) ((1687)).
والحمد للّه اولا وآخرا
انتهى الجزء الثامن من كتاب الغدير ويتلوه الجزء التاسع يبتدا
فيه بتتمة هذه المباحث ان شاء اللّهفتربص حتى حين (ولا
تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى اليك وحيه) ((1688))