فقال عبداللّه: كذبت يا عمرو، وانت اهله، ليس كما وصفت،
ولكنه: للّه ذكور، ولبلائه شكور، وعن الخنا زجور، سيدكريم،
ماجد صميم، جواد حليم، ان ابتدا اصاب، وان سئل اجاب، غير
حصر ولاهياب، ولا فاحش عياب، كذلك قضى‏اللّه في الكتاب،
فهو كالليث الضرغام، الجري‏ء المقدام، في الحسب القمقام،
ليس بدعي ولا دني، كمن اختصم فيه من‏قريش شرارها، فغلب
عليه جزارها، فاصبح ينوء بالدليل، وياوي فيها الى القليل،
مذبذب بين حيين، كالساقط بين‏المهدين، لا المعتزى اليهم
قبلوه، ولا الظاعن عنهم فقدوه، فليت شعري باي حسب تنازل
للنضال؟ ام باي قديم تعرض‏للرجال؟ ابنفسك؟ فانت الخوار
الوغد الزنيم. ام بمن تنتمي اليه؟ فانت اهل السفه والطيش
والدناءة في قريش، لا بشرف‏في الجاهلية شهر، ولا بقديم في
الاسلام ذكر، غير انك تنطق بغير لسانك، وتنهض بغير اركانك،
وايم اللّه ان كان لاسهل‏للوعث((559)) والم للشعث((560)) ان
يكعمك((561)) معاوية على ولوعك باعراض قريش كعام
الضبع في وجاره((562))،فانت لست لها بكفي، ولا لاعراضها
بوفي.
قال: فتهيا عمرو للجواب، فقال له معاوية: نشدتك اللّه الا ما
كففت. فقال عمرو: يا امير المؤمنين دعني انتصر فانه لم
يدع‏شيئا. فقال معاوية: اما في مجلسك هذا فدع الانتصار،
وعليك بالاصطبار.
واشار الى هذه القصة ابن حجر في الاصابة (2/320).
اسلامه
ان الذي حدانا اليه يقين لا يخالجه شك، بعد الاخذ بمجامع ما
يؤثر عن الرجل في شؤونه واطواره، انه لم يعتنق الدين‏اعتناقا،
وانما انتحله انتحالا وهو في الحبشة، نزل بها مع عمارة بن
الوليد لاغتيال جعفر واصحابه رسل النبي الاعظم،تنتهي اليه
الانباء عن امر الرسالة، ويبلغه التقدم والنشور له، وسمع من
النجاشي قوله: اتسالني ان اعطيك رسول رجل‏ياتيه الناموس
الاكبر الذي كان ياتي موسى لتقتله؟ فقال: ايها الملك اكذلك
هو؟ فقال: ويحك يا عمرو اطعني واتبعه، فانه‏واللّه لعلى الحق،
وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون
وجنوده((563)).
فراقه التزلف الى صاحب الرسالة بالتسليم له، فلم ينكفئ الى
الحجاز الا طمعا في رتبة، او وقوفا على لماظة من العيش،
اوفرقا من البطش الالهي بالسلطة النبوية. فنحن لا نعرفه في
غضون هاتيك المدد التي كان يداهن فيها المسلمين
ويصانعهم‏ابقاء لحياته، واستدرارا لمعاشه، الا كما نعرفه يوم كان
يهجو رسول اللّه(ص) بقصيدة ذات سبعين بيتا، فلعنه(ص)
عددابياته.
وهو كما قال امير المؤمنين: ((متى ما كان للفاسقين وليا،
وللمسلمين عدوا؟! وهل يشبه الا امه التي دفعت به))((564))
وكان‏كما ياتي عن امير المؤمنين، من قوله: ((والذي فلق
الحبة وبرا النسمة، ما اسلموا ولكن استسلموا، واسروا الكفر،
فلماوجدوا اعوانا، رجعوا الى عداوتهم منا)).
قال ابن ابي الحديد في الشرح((565))(1/137): قال شيخنا ابو
القاسم البلخي (ره) : قول عمرو بن العاص لمعاوية لماقال له
معاوية: يا ابا عبداللّه اني لاكره لك ان تتحدث العرب عنك انك
انما دخلت في هذا الامر لغرض الدنيا : دعناعنك. كناية عن
الالحاد بل تصريح به، اي: دع هذا الكلام لا اصل له، فان اعتقاد
الاخرة وانها لا تباع بعرض الدنيا من‏الخرافات، وما زال عمرو بن
العاص ملحدا ما تردد قط في الالحاد والزندقة، وكان معاوية
مثله.
وقال في (2/113): ونقلت انا من كتب متفرقة، كلمات حكمية،
تنسب الى عمرو بن العاص، استحسنتها واوردتها لاني لااجحد
لفاضل فضله، وان كان دينه عندي غير مرضي.
وقال في (ص‏114): قال شيخنا ابو عبداللّه: اول من قال بالارجاء
المحض معاوية وعمرو بن العاص، كانا يزعمان انه لايضر مع
الايمان معصية، ولذلك قال معاوية لمن قال: حاربت من تعلم.
وارتكبت ما تعلم، فقال: وثقت بقوله تعالى:(ان‏اللّه يغفر الذنوب
جميعا)((566)).
وقال في (2/179): واما معاوية: فكان فاسقا مشهورا بقلة الدين،
والانحراف عن الاسلام، وكذلك ناصره ومظاهره على‏امره
عمرو بن العاص، ومن تبعهما من طغام اهل الشام واجلافهم
وجهال الاعراب، فلم يكن امرهم خافيا في جوازمحاربتهم
واستحلال قتالهم.
وهناك كلمات ذكرت في مصادر وثيقة تمثل الرجل بين يدي
القارئ بروحياته وحقيقته، وتخبره بعجره
وبجره((567))،واليك نماذج منها:
1 كلمة النبي الاعظم (ص)
دخل زيد بن ارقم على معاوية، فاذا عمرو بن العاص جالس معه
على السرير، فلما راى ذلك زيد، جاء حتى رمى بنفسه‏بينهما،
فقال له عمرو بن العاص: اما وجدت لك مجلسا الا ان تقطع
بيني وبين امير المؤمنين؟
فقال زيد: ان رسول اللّه(ص) غزا غزوة وانتما معه فرآكما
مجتمعين، فنظر اليكما نظرا شديدا، ثم رآكما اليوم الثاني
واليوم‏الثالث، كل ذلك يديم النظر اليكما، فقال في اليوم
الثالث: ((اذا رايتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا
بينهما، فانهمالن يجتمعا على خير)).
كذا اخرجه ابن مزاحم في كتاب صفين((568))(ص‏112)،
ورواه ابن عبد ربه في العقد الفريد((569))(2/290) عن
عبادة‏بن الصامت، وفيه: انه(ص) قاله في غزوة تبوك ولفظه:
((اذا رايتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما، فانهما لا يجتمعان على
خير)).
2 كلمة امير المؤمنين(ع)
روى ابو حيان التوحيدي في الامتاع والمؤانسة (3/183) قال:
قال الشعبي: ذكر عمرو بن العاص عليا، فقال: فيه دعابة.فبلغ
ذلك عليا، فقال:
((زعم ابن النابغة اني تلعابة، تمراحة، ذو دعابة، اعافس،
وامارس. هيهات يمنع من العفاس والمراس((570))، ذكر
الموت‏وخوف البعث والحساب، ومن كان له قلب، ففي هذا من
هذا له واعظ وزاجر، اما وشر القول الكذب، انه ليعد
فيخلف،ويحدث فيكذب، فاذا كان يوم الباس، فانه زاجر وآمر،
ما لم تاخذ السيوف بهام الرجال، فاذا كان ذاك، فاعظم
مكيدته‏في‏نفسه، ان يمنح القوم استه)).
ورواه بهذا اللفظ شيخ الطائفة في اماليه((571))(ص‏82) من
طريق الحافظ ابن عقدة.
صورة اخرى على رواية الشريف الرضي :
((عجبا لابن النابغة! يزعم لاهل الشام ان في دعابة، واني امرو
تلعابة، اعافس وامارس، لقد قال باطلا، ونطق آثما، اماوشر
القول الكذب، انه ليقول فيكذب، ويع د فيخلف، ويسال
فيلحف، ويسال فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الال، فاذاكان
عند الحرب فاي زاجر وآمر هو ما لم تاخذ السيوف مخذها؟! فاذا
كان ذلك، كان اكبر مكيدته ان يمنح القرم سبته،اما واللّه اني
ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وانه ليمنعه من قول الحق
نسيان الاخرة، وانه لم يبايع معاوية حتى شرط له ان‏يؤتيه اتية،
ويرضخ له على ترك الدين رضيخة((572)))). نهج
البلاغة((573)) (1/145).
صورة اخرى على رواية ابن قتيبة :
قال زيد بن وهب: قال لي علي بن ابي طالب(رض):
((عجبا لابن النابغة! يزعم اني تلعابة، اعافس وامارس، اما وشر
القول اكذبه، انه يسال فيلحف، يسال فيبخل، فاذا كان‏عند
الباس فانه امرو زاجر، ما لم تاخذ السيوف مخذها من هام القوم،
فاذا كان كذلك، كان اكبر همه ان يبرقط((574))ويمنح الناس
استه، قبحه اللّه وترحه)). عيون الاخبار (1/164).
صورة اخرى على رواية ابن عبدربه :
ذكر عمرو بن العاص عند علي بن ابي طالب، فقال فيه علي:
((عجبا لابن الباغية! يزعم اني بلقائه اعافس وامارس، الا وشر
القول اكذبه، انه يسال فيلحف، ويسال فيبخل، فاذااحمرالباس،
وحمي الوطيس، واخذت السيوف مخذها من هام الرجال، لم
يكن له هم الا غرقة ثيابه((575))، ويمنح‏الناس استه، فض ه
اللّه وترحه)). العقد الفريد((576))(2/287).
3 كلمة اخرى له(ع)
لما رفع اهل الشام المصاحف على الرماح يوم صفين، يدعون
الى حكم القرآن، قال علي(ع):
((عباد اللّه:انا احق من اجاب الى كتاب اللّه، ولكن معاوية،
وعمرو بن العاص، وابن ابي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن‏ابي
سرح، ليسوا باصحاب دين ولا قرآن، اني اعرف بهم منكم،
صحبتهم اطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر اطفال،وشر
رجال، انها كلمة حق يراد بها الباطل، انهم واللّه ما رفعوها، انهم
يعرفونها ولا يعملون بها، وما رفعوها لكم الا خديعة ومكيدة)).
كتاب صفين لابن مزاحم((577))(ص‏264).
4 كلمة اخرى له(ع)
قال ابو عبدالرحمن المسعودي: حدثني يونس بن ارقم بن
عوف، عن شيخ من بكر بن وائل، قال: كنا مع علي
بصفين،فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة((578)) في راس
رمح، فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول اللّه(ص)، فلم يزالوا
كذلك‏حتى بلغ عليا.
فقال علي: ((هل تدرون ما امر هذا اللواء؟ ان عدو اللّه عمرو بن
العاص اخرج له رسول اللّه(ص) هذه الشقة، فقال: من‏ياخذها
بما فيها؟ فقال عمرو: وما فيها يا رسول اللّه؟.
قال: فيها ان لا تقاتل به مسلما، ولا تقربه من كافر. فاخذها، فقد
واللّه قربه من المشركين، وقاتل به اليوم المسلمين، والذي‏فلق
الحبة وبرا النسمة، ما اسلموا ولكن استسلموا واسروا الكفر، فلما
وجدوا اعوانا رجعوا الى عداوتهم منا، الا انهم لم‏يدعوا الصلاة)).
كتاب صفين لابن مزاحم((579))(ص‏110).
5 كتاب امير المؤمنين الى عمرو
((من عبداللّه علي امير المؤمنين الى الابتر ابن الابتر، عمرو بن
العاص بن وائل، شانئ محمد وآل محمد في الجاهلية‏والاسلام.
سلام على من اتبع الهدى.
اما بعد: فانك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره، يشين
الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فصار قلبك لقلبه‏تبعا،
كما قيل: وافق شن طبقة((580))، فسلبك دينك، وامانتك،
ودنياك، وآخرتك، وكان علم اللّه بالغا فيك،
فصرت‏كالذئب‏يتبع الضرغام اذا ما الليل دجا، او اتى الصبح،
يلتمس فاضل سؤره، وحوايا فريسته، ولكن لا نجاة من القدر،
ولوبالحق‏اخذت لادركت ما رجوت، وقد رشد من كان الحق
قائده، فان يمكن اللّه منك ومن ابن آكلة الاكباد، الحقتكما
بمن‏قتله اللّه من ظلمة قريش على عهد رسول اللّه (ص) ، وان
تعجزا وتبقيا بعدي ، فاللّه حسبكما ، وكفى بانتقامه انتقاما
،وبعقابه عقابا. والسلام)).
فائدة
هذا الكتاب بهذه الصورة، ذكرها ابن ابي الحديد((581)) في
شرحه((582))(4/61) نقلا عن كتاب صف ين لنصر بن‏مزاحم،
ولم نجده فيه، فمن امعن النظر في جل ما نقله ابن ابي الحديد
عن هذا الكتاب يعلم بان المطبوع منه هو مختصره لااصله،
وهو اكبر من الموجود بكثير.
صورة اخرى له :
((فانك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرئ ظاهر غيه، مهتوك
ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحليم
بخلطته،فاتبعت‏اثره وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام يلوذ
بمخالبه، وينتظر ما يلقى اليه من فضل فريسته، فاذهب
دنياك‏وآخرتك، ولو بالحق اخذت ادركت ما طلبت، فان يمكن
اللّه منك ومن ابن ابي سفيان، اجزكما بما قدمتما، وان تعجزا
وتبقيافما امامكما شر لكما. والسلام)). نهج
البلاغة((583))(2/64).
6 خطبة امير المؤمنين بعد التحكيم
لما خرجت الخوارج وهرب ابو موسى الى مكة، ورد علي(ع) ابن
عباس الى البصرة، قام في الكوفة خطيبا، فقال:
((الحمد للّه، وان اتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل،
واشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له، ليس معه‏اله‏غيره،
وان محمدا عبده ورسوله(ص).
اما بعد: فان معصية الناصح الشفيق، العالم المجرب، تورث
الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت امرتكم في هذه
الحكومة‏امري، ونحلت لكم مخزون رايي، لو كان يطاع لقصير
امر((584))، فابيتم علي اباء المخالفين الجفاة، والمنابذين
العصاة، حتى‏ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت
انا واياكم كما قال اخو هوازن((585)):
امرتكم امري بمنعرج اللوى
فلم تستبينوا النصح الا ضحى الغد
الا ان هذين الرجلين عمرو بن العاص وابا موسى الاشعري
اللذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن
وراءظهورهما، واحييا ما امات القرآن، واماتا ما احيا القرآن،
واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من اللّه، فحكما بغير
حجة‏بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم
يرشد((586))، فبرئ اللّه منهما ورسوله وصالح المؤمنين،
واستعدواوتاهبوا للمسير الى الشام)).
الامامة والسياسة((587))(1/119)، تاريخ
الطبري((588))(6/45)، مروج الذهب((589))(2/35)،
نهج‏البلاغة((590))(1/44)، كامل ابن الاثير((591))(3/146).
ذكر ابن كثير في تاريخه((592))(7/286) هذه الخطبة، ولما
لم يعجبه ذكر اهل العبث والفساد بما هم عليه، او لم
يره‏صادرامن اهله في محله، او لم يرض ان تطلع الامة
الاسلامية على حقيقة عمرو بن العاص وصويحبه بتر الخطبة،
وذكرهاالى آخر البيت، فقال: ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد
عليهما ما حكما به وانبهما، وقال ما فيه حط عليهما. انتهى.
وهناك لامير المؤمنين(ع) في خطبه كلمات كثيرة حول
الرجل، مثل قوله: ((قد سار الى مصر ابن النابغة عدو اللّه، وولي
من‏عادى اللّه)). وقوله: ((ان مصر افتتحها الفجرة اولو الجور
والظلم الذين صدوا عن سبيل اللّه، وبغوا الاسلام‏عوجا
))((593)).
نضرب عنها صفحا روما للاختصار.
7 قنوت امير المؤمنين بلعن عمرو
اخرج ابو يوسف القاضي في الاثار (ص‏71)، من طريق ابراهيم
قال: ان عليا(رض) قنت يدعو على معاوية(رض) حين‏حاربه،
فاخذ اهل الكوفة عنه، وقنت معاوية يدعو على علي، فاخذ اهل
الشام عنه.
وروى الطبري في تاريخه((594))(6/40) قال: كان علي اذا
صلى الغداة يقنت فيقول: ((اللهم العن معاوية، وعمرا،
واباالاعور السلمي، وحبيبا، وعبدالرحمن بن خالد، والضحاك
بن قيس، والوليد)).
فبلغ ذلك معاوية، فكان اذا قنت لعن عليا، وابن عباس،
والاشتر، وحسنا، وحسينا.
ورواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين((595))(ص‏302) وفي
طبعة مصر (ص‏636) وفيه: كان علي اذا صلى الغداة‏والمغرب
وفرغ من الصلاة يقول: اللهم العن معاوية، وعمرا، وابا موسى،
وحبيب بن مسلمة...)).
الى آخر الحديث باللفظ المذكور، غير ان فيه: قيس بن سعد
مكان الاشتر.
وقال ابن حزم في المحلى(4/145): كان علي يقنت في
الصلوات كلهن، وكان معاوية يقنت ايضا، يدعو كل واحد منهما
على‏صاحبه.
ورواه الوطواط في الخصائص((596))(ص‏330) وزاد فيه: ولم
يزل الامر على ذلك برهة من ملك بني امية، الى ان ولي‏عمر
بن عبدالعزيز الخلافة، فمنع من ذلك. وذكره ابن الاثير في
الكامل((597))(3/144) بلفظ الطبري.
وقال ابو عمر في الاستيعاب((598)) في الكنى في ترجمة
ابي الاعور السلمي: كان هو وعمرو بن العاص مع
معاوية‏بصفين، وكان من اشد من عنده على علي(رض)، وكان
علي(رض) يذكره في القنوت في صلاة الغداة، يقول: ((اللهم
عليك به))مع قوم يدعو عليهم في قنوته. وذكره على لفظ
الطبري، ابو الفداء في تاريخه (1/179).
وقال الزيلعي في نصب الراية (2/131): قال ابراهيم: واهل
الكوفة انما اخذوا القنوت عن علي، قنت يدعو على معاوية‏حين
حاربه، واهل الشام اخذوا القنوت عن معاوية، قنت يدعو على
علي.
ورواه ابو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي في‏تذكرته((599))
(ص‏59) بلفظ الطبري حرفيا الى قنوت معاوية، وزاد
فيه:محمد بن الحنفية، وشريح بن هاني. وذكره ابن ابي الحديد
في شرح نهج البلاغة((600))(1/200) نقلا عن كتابي صفين
لابن‏ديزيل المترجم له (1/73) ونصر بن مزاحم. وذكره
الشبلنجي في‏نور الابصار((601))(ص‏110).
8 دعاء عائشة على عمرو
لما بلغ عائشة قتل محمد بن ابي بكر، جزعت عليه جزعا
شديدا، وجعلت تقنت وتدعو في دبر الصلاة على معاوية‏وعمرو
بن العاص.
رواه الطبري في تاريخه((602))(6/60)، ابن الاثير في
الكامل((603))(3/155)، ابن كثير في
تاريخه((604))(7/314)، ابن‏ابي الحديد في شرح
النهج((605))(2/33).
9 الامام الحسن الزكي وعمرو
روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال: اجتمع عند
معاوية عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة بن ابي معيط،
وعتبة‏بن ابي سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، وقد كان
بلغهم عن الحسن بن علي(ع) قوارص((606))، وبلغه عنهم
مثل ذلك،فقالوا: يا امير المؤمنين ان الحسن قد احيا اباه
وذكره، وقال فصدق، وامر فاطيع، وخفقت له النعال، وان ذلك
لرافعه الى‏ما هو اعظم منه، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا. قال
معاوية: فما تريدون؟
قالوا: ابعث عليه فليحضر لنسبه ونسب اباه! ونعيره، ونوبخه،
ونخبره ان اباه‏قتل عثمان، ونقرره بذلك، ولا يستطيع ان يغير
علينا شيئا من ذلك. قال معاوية: اني لا ارى ذلك ولا افعله.
قالوا: عزمناعليك يا امير المؤمنين لتفعلن. فقال: ويحكم
لاتفعلوا، فواللّه ما رايته قط جالسا عندي الا خفت مقامه وعيبه
لي. قالوا:ابعث اليه على كل حال. قال: ان بعثت اليه لانصفنه
منكم. فقال عمرو بن العاص: اتخشى ان ياتي باطله على
حقنا؟! اويربي قوله على قولنا؟ قال معاوية: اما اني ان بعثت اليه
لامرنه ان يتكلم بلسانه كله. قالوا: مره بذلك. قال: اما
اذاعصيتموني وبعثتم اليه وابيتم الا ذلك، فلا تمرضوا له في
القول، واعلموا انهم اهل بيت لا يعيبهم العائب، ولا يلصق
بهم‏العار، ولكن اقذفوه بحجره، تقولون له: ان اباك قتل عثمان،
وكره خلافة الخلفاء من قبله.
فبعث اليه معاوية، فجاءه رسوله، فقال: ان امير المؤمنين
يدعوك. قال: ((من عنده؟)) فسماهم، فقال الحسن(ع): ((ما
لهم؟خر عليهم السقف من فوقهم واتاهم العذاب من حيث لا
يشعرون)). ثم قال: ((يا جارية ابغيني ثيابي، اللهم اني اعوذ
بك‏من شرورهم، وادرا بك في نحورهم، واستعين بك عليهم،
فاكفنيهم كيف شئت، وانى شئت، بحول منك وقوة يا
ارحم‏الراحمين)).
ثم قام فدخل على معاوية. الى ان قال: فتكلم عمرو بن العاص،
فحمد اللّه وصلى على رسوله، ثم ذكر عليا(ع) فلم يترك‏شيئا
يعيبه به الا قاله، وقال: انه شتم ابا بكر، وكره خلافته، وامتنع
من بيعته ثم بايعه مكرها، وشرك في دم عمر، وقتل‏عثمان
ظلما، وادعى من الخلافة ما ليس له. ثم ذكر الفتنة يعيره بها،
واضاف اليه مساوئ. وقال: انكم يا بني عبدالمطلب لم‏يكن اللّه
ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء، واستحلالكم ما حرم اللّه
من الدماء، وحرصكم على الملك، واتيانكم ما لايحل! ثم انك يا
حسن تحدث نفسك ان الخلافة صائرة اليك، وليس عندك
عقل ذلك ولا لبه، كيف ترى اللّه سبحانه سلبك‏عقلك، وتركك
احمق قريش، يسخر منك ويهزا بك! وذلك لسوء عمل ابيك،
وانما دعوناك لنسبك واباك. فاما ابوك فقدتفرد اللّه به وكفانا
امره، واما انت فانك في ايدينا نختار فيك الخصال، ولو قتلناك
ما كان علينا اثم من اللّه، ولا عيب من‏الناس، فهل تستطيع ان
ترد علينا وتكذبنا؟ فان كنت ترى انا كذبنا في شي‏ء فاردده
علينا فيما قلنا، والا فاعلم انك واباك‏ظالمان.
فتكلم الحسن بن علي(ع) فحمد اللّه واثنى عليه وصلى على
رسوله الى ان قال لعمرو بعد جمل ذكرت (ص‏122) :
((وقاتلت رسول اللّه(ص) في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته
بمكة، وكدته كيدك كله، وكنت من اشد الناس
له‏تكذيباوعداوة ، ثم خرجت تريد النجاشي مع اصحاب
السفينة، لتاتي بجعفر واصحابه الى اهل مكة، فلما اخطاك
مارجوت، ورجعك اللّه خائبا، واكذبك واشيا. جعلت حسدك
على صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به الى النجاشي،حسدا
لما ارتكب من حليلته، ففضحك اللّه وفضح صاحبك، فانت عدو
بني هاشم في الجاهلية والاسلام، ثم انك تعلم،وكل هؤلاء
الرهط يعلمون: انك هجوت رسول اللّه(ص) بسبعين بيتا من
الشعر، فقال رسول اللّه: اللهم اني لا اقول الشعرولا ينبغي لي،
اللهم العنه بكل حرف الف لعنة. فعليك اذن من اللّه ما لا
يحصى من اللعن.
واما ما ذكرت من امر عثمان، فانت سعرت عليه الدنيا نارا، ثم
لحقت بفلسطين، فلما اتاك قتله قلت: انا ابو عبداللّه اذانكات
اي: قشرت قرحة ادميتها. ثم حبست نفسك الى معاوية،
وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض، ولانعاتبك على
ود، وباللّه ما نصرت عثمان حيا، ولا غضبت له مقتولا.
ويحك يا ابن العاص الست القائل في بني هاشم لما خرجت من
مكة الى النجاشي:
تقول ابنتي اين هذا الرحيل
وما السير مني بمستنكر
فقلت ذريني فاني امرو
اريد النجاشي في جعفر
لا كويه عنده كية‏اقيم بها نخوة الاصعر((607))
وشانى‏ء احمد من بينهم
واقولهم فيه بالمنكر
واجري الى عتبة جاهدا
ولو كان كالذهب الاحمر
ولا انثني عن بني هاشم
وما اسطعت في الغيب والمحضر
فان قبل‏العتب مني له‏والا لويت له
مشفري))((608))
تذكرة سبط ابن الجوزي((609)) (ص‏14)، شرح ابن ابي
الحديد((610)) (2/103)، جمهرة الخطب((611)) (2/12).
بيان
قوله(ع): ((لتاتي بجعفر واصحابه الى مكة)) يشير الى هجرته
الثانية الى الحبشة وقد هاجر اليها من المسلمين نحو
ثلاثة‏وثمانين رجلا وثماني عشرة امراة. وكان من الرجال جعفر
بن ابي طالب، ولما رات قريش ذلك، ارسلت في اثرهم
عمروبن العاص، وعمارة بن الوليد بهدايا الى النجاشي
وبطارقته ليسلم المسلمين، فرجعا خائبين، وابى النجاشي ان
يخفر ذمته.
قوله(ع): ((لما ارتكب من حليلته)). ذلك: ان عمرا وعمارة
ركبا البحر الى الحبشة، وكان عمارة جميلا وسيما تهواه
النساء،وكان مع عمرو بن العاص امراته، فلما صاروا في البحر
ليالي اصابا من خمر معهما، فانتشى عمارة، فقال لامراة
عمرو:قبليني. فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك. فقبلته، فهويها
عمارة وجعل يراودها عن نفسها، فامتنعت منه، ثم ان عمرا
جلس‏على منجاف((612)) السفينة يبول، فدفعه عمارة في
البحر، فلما وقع عمرو سبح حتى اخذ بمنجاف السفينة، وضغن
على‏عمارة في نفسه، وعلم انه كان اراد قتله، ومضيا حتى نزلا
الحبشة، فلما اطمانا بها لم يلبث عمارة ان دب
لامراة‏النجاشي‏فادخلته، فاختلف اليها، وجعل اذا رجع من
مدخله ذلك يخبر عمرا بما كان من امره، فيقول عمرو: لا اصد
قك‏انك قدرت على هذا! ان شان هذه المراة ارفع من ذلك.
فلما اكثر عليه عمارة بما كان يخبره، وراى عمرو من حاله
وهيئته ومبيته عندها، حتى ياتي اليه من السحر ما عرف
به‏ذلك، قال له: ان كنت صادقا فقل لها: فلتدهنك بدهن
النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فاني اعرفه، وآتني بشي‏ء
منه‏حتى اصدقك. قال: افعل. فسالها ذلك، فدهنته منه،
واعطته شيئا في قارورة. فقال عمرو: اشهد انك قد صدقت،
لقد اصبت‏شيئا ما اصاب احد من العرب مثله قط: امراة الملك!
ما سمعنا بمثل هذا. ثم سكت عنه حتى اطمان، ودخل على
النجاشي‏فاعلمه شان عمارة، وقدم اليه الدهن. فلما اثبت امره،
دعا بعمارة، ودعا نسوة اخر، فجردوه من ثيابه، ثم امرهن
ينفخن في‏احليله، ثم خلى سبيله، فخرج هاربا.
عيون الاخبار لابن قتيبة (1/37)، الاغاني((613)) (9/56)،
شرح النهج لابن ابي الحديد((614)) (2/107)،
قصص‏العرب((615)) (1/89)((616)).
10 كتاب ابن عباس الى عمرو
كتب ابن عباس مجيبا عمرو بن العاص:
اما بعد: فاني لا اعلم رجلا من العرب اقل حياء منك، انه مال
بك معاوية الى الهوى، وبعته دينك بالثمن اليسير،
ثم‏خبطت‏بالناس في ع شوة طمعا في الملك، فلما لم تر شيئا،
اعظمت الدنيا اعظام اهل الذنوب، واظهرت فيها نزاهة
اهل‏الورع، لا تريد بذلك الا تمهيد الحرب وكسر اهل الدين، فان
كنت تريد اللّه بذلك فدع مصر، وارجع الى بيتك، فان
هذه‏الحرب ليس فيها معاوية كعلي، بداها علي بالحق، وانتهى
فيها الى العذر، وبداها معاوية بالبغي، وانتهى فيها الى
السرف،وليس اهل العراق فيها كاهل الشام، بايع اهل العراق عليا
وهو خير منهم، وبايع اهل الشام معاوية وهم خير منه،ولست‏انا
وانت فيها بسواء، اردت اللّه، واردت انت مصر، وقد عرفت الشي‏ء
الذي باعدك مني، واعرف الشي‏ء الذي‏قربك من معاوية، فان
ترد شرا لا نسبقك به، وان ترد خيرا لا تسبقنا اليه.
ثم دعا الفضل بن عباس فقال له: يا ابن ام اجب عمرا، فقال
الفضل:
يا عمرو حسبك من خدع ووسواس فاذهب فليس لداء
الجهل من آس((617))
الا تواتر طعن في نحوركم
يشجي النفوس ويشفي نخوة الراس
هذا الدواء الذي يشفي جماعتكم
حتى تطيعوا عليا وابن عباس
اما علي فان اللّه فضله
بفضل ذي شرف عال على الناس
ان تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة((618))او تبعثوها
فانا غير انكاس
قد كان منا ومنكم في عجاجتها
ما لا يرد وكل عرضة الباس
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة
هذا بهذا وما بالحق من باس
لا بارك اللّه في مصر لقد جلبت‏شرا وحظك منها حسوة
الكاس((619))
يا عمرو انك عار من مغانمها
والراقصات ومن يوم الجزا كاسي
الامامة والسياسة((620)) (1/95)، كتاب صفين((621))
(ص‏219)، شرح ابن ابي الحديد((622)) (2/288).
وهناك ابيات تعزى الى حبر الامة ابن عباس في كتاب صفين
لابن مزاحم((623)) (ص‏300) ذكر فيها عمرا بكل قول‏شائن.
11 ابن عباس وعمرو
حج عمرو بن العاص، فمر بعبداللّه بن عباس فحسده مكانه وما
راى من هيبة الناس له، وموقعه من قلوبهم، فقال له: ياابن
عباس مالك اذا رايتني وليتني قصرة((624))، كان بين
عينيك دبرة((625)) واذا كنت في ملا من الناس
كنت‏اله‏وهاة((626)) الهمزة((627)).
فقال ابن عباس: لانك من اللئام الفجرة، وقريش من الكرام
البررة، لا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقا علموه،وهم
اعظم الناس احلاما، وارفع الناس اعلاما، دخلت في قريش
ولست منها ، فانت الساقط بين فراشين ، لا في بني‏هاشم
رحلك، ولا في بني عبد شمس راحلتك ، فانت الاثيم الزنيم ،
الضال المضل ، حملك معاوية على رقاب الناس ،فانت تسطو
بحلمه، وتسمو بكرمه. فقال عمرو: اما واللّه اني لمسرور بك
فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عباس: حيث مال‏الحق ملنا،
وحيث سلك قصدنا. العقد الفريد((628)) (2/136)
12 ابن عباس وعمرو
حضر عبداللّه بن جعفر مجلس معاوية وفيه عبداللّه بن عباس
وعمرو بن العاص، فقال عمرو: قد جاءكم رجل‏كثيرالخلوات
بالتمني، والطربات بالتغني، محب للقيان، كثير مزاحه، شديد
طماحه، صدود عن الشبان((629))، ظاهرالطيش، رخي
العيش، اخاذ بالسلف، منفاق بالسرف.
فقال ابن عباس: كذبت واللّه انت، وليس كما ذكرت، ولكنه: للّه
ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم،سيدحليم
، اذا رمى اصاب، واذا س ئل اجاب، غير حصر ولا هياب، ولا
عيابة مغتاب، حل من قريش في كريم‏النصاب، كالهزبر
الضرغام، الجري‏ء المقدام، في الحسب القمقام، ليس بدعي ولا
دني‏ء، لا كمن اختصم فيه من قريش‏شرارها، فغلب عليه
جزارها، فاصبح الامها حسبا، وادناها منصبا، ينوء منها بالذليل،
وياوي منها الى القليل، مذبذب بين‏الحيين، كالساقط بين
المهدين، لا المضطر فيهم عرفوه، ولا الظاعن عنهم فقدوه،
فليت شعري باي قدر تتعرض للرجال؟وباي‏حسب تعتد به
تبارز عند النضال ؟ ابنفسك ؟ وانت الوغد اللئيم ، والنكد
الذميم ، والوضيع الزنيم ، ام بمن تنمى‏اليهم ؟ وهم اهل السفه
والطيش، والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا، ولا
بقديم في الاسلام ذكروا، جعلت‏تتكلم بغير لسانك، وتنطق
بالزور في غير اقرانك، واللّه لكان ابين للفضل، وابعد للعدوان ان
ينزلك معاوية منزلة البعيدالسحيق، فانه طالما سلس داوك،
وطمح بك رجاوك الى الغاية القصوى التي لم يخضر فيها
رعيك، ولم يورق فيها غصنك.
فقال عبداللّه بن جعفر: اقسمت عليك لما امسكت، فانك عني
ناضلت، ولي فاوضت. فقال ابن عباس: دعني والعبد، فانه‏قد
يهدر خاليا اذ لا يجد مراميا، وقد اتيح له ضيغم شرس، للاقران
مفترس، وللارواح مختلس. فقال عمرو بن العاص:دعني يا امير
المؤمنين انتصف منه، فو اللّه ما ترك شيئا. قال ابن عباس: دعه
فلا يبقي المبقي الا على نفسه، فواللّه ان قلبي‏لشديد، وان
جوابي لعتيد، وباللّه الثقة، وان ي لكما قال نابغة بني ذبيان:
وقدما قد قرعت وقارعوني
فما نزر الكلام ولا شجاني
يصد الشاعر العراف عني
صدود البكر عن قرم هجان
هذا الحديث: اخرجه الجاحظ في المحاسن والاضداد((630))
(ص‏101)، والبيهقي في المحاسن والمساوئ((631)) (1/68).
وقد مر (ص‏125) عن ابن عساكر((632)) لعبداللّه بن ابي
سفيان نحوه، وفي بعض الفاظه تصحيف يصحح بهذا.
13 معاوية وعمرو
لما علم معاوية ان الامر لا يتم له ان لم يبايعه عمرو، فقال له: يا
عمرو اتبعني. قال: لماذا، للاخرة؟ فواللّه ما معك آخرة،
ام‏للدنيا؟ فواللّه لا كان حتى اكون شريكك فيها. قال: فانت
شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له
مصروكورها، وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمرو السمع
والطاعة. قال عمرو: واكتب: ان السمع والطاعة لا ينقصان
من‏شرطه شيئا. قال معاوية: لا ينظر الناس الى هذا. قال عمرو:
حتى تكتب. قال: فكتب، وواللّه ما يجد بدا من كتابتها.
ودخل عتبة بن ابي سفيان على معاوية وهو يكلم عمرا في
مصر، وعمرو يقول له: انما ابايعك بها ديني. فقال عتبة:
ائتمن‏الرجل بدينه، فانه صاحب من اصحاب محمد. وكتب
عمرو الى معاوية:
معاوي لا اعطيك ديني ولم انل
به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
وما الدين والدنيا سواء وانني
لاخذ ما تعط‏ي وراسي مقنع
فان تعطني مصرا فاربح صفقة
اخذت بها شيخا يضر وينفع
العقد الفريد((633)) (2/291)
14 معاوية وعمرو بصورة مفصلة
كتب امير المؤمنين(ع) الى معاوية بن ابي سفيان يدعوه الى
بيعته، فاستشار معاوية اخاه عتبة بن ابي سفيان، فقال
له:استعن بعمرو بن العاص، فانه من قد علمت في دهائه ورايه،
وقد اعتزل امر عثمان في حياته، وهو لامرك اشد اعتزالا، الا ان
تثمن له بدينه فسيبيعك، فانه صاحب دنيا. فكتب اليه معاوية
وهو بالسبع من فلسطين:
اما بعد: فانه قد كان من امر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك،
وقد سقط الينا مروان بن الحكم في رافضة((634))
اهل‏البصرة، وقدم علينا جرير بن عبداللّه في بيعة علي، وقد
حبست نفسي عليك حتى تاتيني، اقبل اذاكرك امرا.
فلما قرا الكتاب، استشار ابنيه عبداللّه ومحمدا، فقال لهما: ما
تريان؟ فقال عبداللّه: ارى ان نبي اللّه(ص) قبض وهو
عنك‏راض، والخليفتان من بعده، وقتل عثمان وانت عنه غائب،
فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة، ولا تريد ان
تكون‏حاشية‏لمعاوية على دنيا قليلة اوشك ان تهلك فتشقى
فيها.
وقال محمد: ارى انك شيخ قريش وصاحب امرها، وان تصرم
هذا الامر وانت فيه خامل تصاغر امرك، فالحق بجماعة‏اهل
الشام فكن يدا من ايديها، واطلب بدم عثمان، فانك قد
استنمت فيه الى بني امية.
فقال عمرو: اما انت يا عبداللّه، فامرتني بما هو خير لي في
ديني، واما انت يا محمد فامرتني بما هو خير لي في دنياي،
واناناظر فيه. فلما جنه الليل رفع صوته واهله ينظرون اليه:
تطاول ليلي للهموم الطوارق
وخوف التي تجلو وجوه العوائق
وان ابن هند سائلي ان ازوره
وتلك التي فيها بنات البوائق
اتاه جرير من علي بخطة
امرت عليه العيش ذات مضائق
فان نال مني ما يؤمل‏رده‏وان لم ينله ذل
ذل‏المطابق((635))
فواللّه ما ادري وما كنت هكذا
اكون ومهما قادني فهو سائقي
اخادعه ان الخداع دنية
ام اعطيه من نفسي نصيحة وامق
ام اقعد في بيتي وفي ذاك راحة
لشيخ يخاف الموت في كل شارق
وقد قال عبداللّه قولا تعلقت
به النفس ان لم تقتطعني عوائقي
وخالفه فيه اخوه محمد
واني لصلب العود عند الحقائق
فقال عبداللّه: رحل الشيخ. وفي لفظ اليعقوبي: بال الشيخ على
عقبيه وباع دينه بدنياه.
فلما اصبح دعا عمرو غلامه وردان وكان داهيا ماردا، فقال:
ارحل يا وردان، ثم قال: حط يا وردان، ثم قال:ارحل ياوردان،
حط يا وردان!
فقال له وردان: خلطت ابا عبداللّه! اما انك ان شئت انباتك بما
في نفسك. قال: هات ويحك، قال: اعتركت الدنيا والاخرة‏على
قلبك، فقلت: علي معه الاخرة في غير دنيا، وفي الاخرة عوض
من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة، وليس في‏الدنيا عوض
من الاخرة، فانت واقف بينهما.
قال: فانك واللّه ما اخطات، فما ترى يا وردان؟ قال: ارى ان
تقيم في بيتك، فان ظهر اهل الدين عشت في عفو دينهم،
وان‏ظهر اهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال: الان لما شهدت
العرب مسيري الى معاوية، فارتحل وهو يقول:
يا قاتل اللّه وردانا وفطنته
ابدى لعمرك ما في النفس وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها
بحرص نفسي وفي الاطباع ادهان
نفس تعف واخرى‏الحرص يقلبها((636))والمرء ياكل تبنا
وهوغرثان((637))
اما علي فدين ليس يشركه
دنيا وذاك له دنيا وسلطان
فاخترت من طمعي دنيا على بصر
وما معي بالذي اختار برهان
اني لاعرف ما فيها وابصره
وفي ايضا لما اهواه الوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف
وليس يرضى بذل العيش انسان
عمرو لعمر ابيه غير مشتبه
والمرء يعطس والوسنان وسنان
فسار حتى قدم على معاوية، وعرف حاجة معاوية اليه، فباعده
من نفسه، وكايد كل واحد منهما صاحبه.
فلما دخل عليه قال: يا ابا عبداللّه طرقتنا في ليلتنا هذه ثلاثة
اخبار ليس فيها ورد ولا صدر. قال: وما ذاك؟ قال:
ذاك‏ان‏محمد بن ابي حذيفة قد كسر سجن مصر، فخرج هو
واصحابه، وهو من آفات هذا الدين. ومنها ان قيصر
زحف‏بجماعة الروم الي ليتغلب على الشام. ومنها: ان عليا نزل
الكوفة متهيئا للمسير الينا.
قال: ليس كل ما ذكرت عظيما، اما ابن ابي حذيفة، فما
يتعاظمك من رجل خرج في اشباهه، ان تبعث اليه خيلا تقتله
اوتاتيك به، وان فاتك لا يضرك.
واما قيصر: فاهد له من وصفاء((638)) الروم ووصائفها، وآنية
الذهب والفضة، وسله الموادعة، فانه اليها سريع.
واما علي: فلا واللّه يا معاوية! ما تسوي العرب بينك وبينه في
شي‏ء من الاشياء، ان له في الحرب لحظا ما هو لاحد من‏قريش،
وانه لصاحب ما هو فيه الا ان تظلمه.
وفي رواية اخرى: قال معاوية: يا ابا عبداللّه اني ادعوك الى
جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه، وقتل الخليفة، واظهر
الفتنة،وفرق الجماعة، وقطع الرحم.
قال عمرو: الى من؟ قال: الى جهاد علي.
فقال عمرو: واللّه يا معاوية ما انت وعلي بعكمي((639)) بعير،
ما لك هجرته، ولا سابقته، ولا صحبته، ولا جهاده، ولافقهه، ولا
علمه، واللّه ان له مع ذلك حدا وحدودا، وحظا وحظوة، وبلاء
من اللّه حسنا، فما تجعل لي ان شايعتك على‏حربه؟ وانت تعلم
ما فيه من الغرر والخطر. قال: حكمك. قال: مصر طعمة. فتلكا
عليه((640)).
وفي حديث، قال له معاوية: اني اكره لك ان يتحدث العرب
عنك، انك انما دخلت في هذا الامر لغرض الدنيا. قال:
دعني‏عنك((641)). قال معاوية: اني لو شئت ان امنيك
واخدعك لفعلت. قال عمرو: لا لعمر اللّه مامثلي يخدع، لانا
اكيس من‏ذلك. قال له معاوية: ادن مني براسك اسارك. قال:
فدنا منه عمرو يساره، فعض معاوية اذنه، وقال: هذه خدعة، هل
ترى‏في البيت احدا غيري وغيرك؟ فانشا عمرو يقول:
معاوي لا اعطيك ديني ولم انل
بذلك دنيا فانظرن كيف تصنع
فان تعطني مصرا فاربح بصفقة‏اخذت بها شيخا يضر
وينفع((642))
وما الدين والدنيا سواء وانني
لاخذ ما تعط‏ي وراسي مقنع
ولكنني اغضي الجفون وانني
لاخدع نفسي والمخادع يخدع
واعطيك امرا فيه للملك قوة
واني به ان زلت النعل اصرع
وتمنعني مصرا وليست برغبة((643))واني بذا الممنوع
قدما لمولع
قال: ابا عبداللّه، الم تعلم ان مصر مثل العراق؟ قال: بلى. ولكنها
انما تكون لي اذا كانت لك، وانما تكون لك اذا غلبت‏علياعلى
العراق، وقد كان اهلها بعثوا بطاعتهم الى علي.
قال: فدخل عتبة بن ابي سفيان، فقال لمعاوية: اما ترضى ان
تشتري عمرا بمصر ان هي صفت لك؟ ليتك لاتغلب‏على‏الشام.
فقال معاوية: يا عتبة بت عندنا الليلة.
فلما ج ن على عتبة الليل، رفع صوته ليسمع معاوية، وقال:
ايها المانع سيفا لم يهز
انما ملت على خز وقز
انما انت خروف ماثل
بين ضرعين وصوف لم يجز
اعط عمرا ان عمرا تارك
دينه اليوم لدنيا لم تحز
يا لك الخير فخذ من دره‏شخبه الاولى وابعد ما
غرز((644))
واسحب الذيل وبادر فوقها((645))وانتهزها ان عمرا
ينتهز((646))
اعطه مصرا وزده مثلهاانما مصر لمن عز
فبز((647))
واترك الحرص عليها ضلة‏واشبب النار لمقرور
يكز((648))
ان مصرا لعلي او لنا
يغلب اليوم عليها من عجز
فلما سمع معاوية قول عتبة، ارسل الى عمرو فاعطاه مصر،
فقال له عمرو: لي اللّه عليك بذلك شاهد؟. قال له معاوية:
نعم‏لك اللّه علي بذلك، لئن فتح اللّه علينا الكوفة. قال عمرو:
واللّه على ما نقول وكيل.
فخرج عمرو من عنده، فقال له ابناه: ما صنعت؟ قال: اعطانا
مصر. قالا: وما مصر في ملك العرب. قال: لا اشبع اللّهبطونكما
ان لم يشبعكما مصر.
وكتب معاوية على ان لا ينقض شرط طاعة. وكتب عمرو على
ان لا ينقض طاعة شرطا. فكايد كل واحد منهماصاحبه.
كتاب صفين لابن مزاحم(ص‏20 24)، كامل المبرد(1/221)،
شرح ابن ابي الحديد(1/136 138)، تاريخ‏اليعقوبي(2/161
163)، رغبة الامل من كتاب الكامل(3/108)، قصص
العرب(2/362)((649)).
15 عمار بن ياسر وعمرو
اجتمع عمار بن ياسر مع عمرو بن العاص في المعسكر يوم
صفين، فنزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم،
فتشهدعمرو بن العاص يعني قال: اشهد ان لا اله الا اللّه .
فقال عمار: اسكت فقد تركتها في حياة محمد ومن بعده،
ونحن‏احق بها منك، فان شئت كانت خصومة فيدفع حق نا
باطلك، وان شئت كانت خطبة، فنحن اعلم بفصل الخطاب
منك،وان شئت اخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك، وتكفرك
قبل القيام، وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع ان تكذبني.
قال عمرو: يا ابا اليقظان، ليس لهذا جئت، انما جئت لاني
رايتك اطوع اهل هذا العسكر فيهم، اذكرك اللّه الا
كففت‏سلاحهم، وحقنت دماءهم، وحرضت على ذلك، فعلام
تقاتلنا؟! اولسنا نعبد الها واحدا؟ ونصلي قبلتكم؟
وندعودعوتكم؟ ونقرا كتابكم؟ ونؤمن برسولكم؟
قال عمار: الحمد للّه الذي اخرجها من فيك، انها لي
ولاصحابي: القبلة، والدين، وعبادة الرحمن، والنبي، والكتاب،
من‏دونك ودون اصحابك، الحمد للّه الذي قررك لنا بذلك
دونك ودون اصحابك، وجعلك ضالا مضلا ، لا تعلم هاد انت
ام‏ضال، وجعلك اعمى، وساخبرك على ما قاتلتك عليه انت
واصحابك، امرني رسول اللّه ان اقاتل الناكثين، وقد
فعلت،وامرني ان اقاتل القاسطين، فانتم هم، واما المارقون، فما
ادري ادركهم ام لا؟
ايها الابتر الست تعلم ان رسول اللّه قال لعلي: ((من كنت مولاه
فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟!)) وانامولى
اللّه ورسوله وعلي من بعده، وليس لك مولى.
قال له عمرو: لم تشتمني يا ابا اليقظان! ولست اشتمك؟ قال
عمار: وبم تشتمني؟ اتستطيع ان تقول: اني عصيت اللّه
ورسوله‏يوما قط. قال له عمرو: ان فيك لمسبات سوى ذلك.
قال عمار: ان الكريم من اكرمه اللّه، كنت وضيعا فرفعني
اللّه،ومملوكافاعتقني اللّه، وضعيفا فقواني اللّه، وفقيرا فاغناني
اللّه. قال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ قال: فتح لكم باب
كل‏سوء. قال عمرو: فعلي قتله. قال عمار: بل اللّه رب علي
قتله((650)).
وروى نصر في كتابه((651))(ص‏165) في حديث: فلما دنا
عمار بن ياسر(ره) بصفين من عمرو بن العاص، قال: يا
عمروبعت دينك بمصر، تبا لك، وطالما بغيت الاسلام عوجا.
ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرته((652))(ص‏53) وزاد: واللّه
ما قصدك وقصد عدو اللّه ابن عدو اللّه بالتعلل بدم عثمان الا
الدنيا.
16 ابو نوح الحميري وعمرو
اتى ابو نوح الحميري الكلاعي يوم صفين مع ذي الكلاع الى
عمرو بن العاص، وهو عند معاوية وحوله الناس، وعبداللّهبن
عمر((653)) يحرض الناس على الحرب، فلما وقفا على القوم،
قال ذو الكلاع لعمرو: يا ابا عبداللّه هل لك في رجل‏ناصح لبيب
شفيق، يخبرك عن عمار بن ياسر، لا يكذبك؟ قال عمرو: ومن
هو؟ قال ذو الكلاع: ابن عمي هذا، وهو من‏اهل الكوفة. فقال
عمرو: اني لارى عليك سيما ابي تراب. قال ابو نوح: علي سيما
محمد(ص) واصحابه، وعليك سيما ابي جهل‏وسيما فرعون.
كتاب صفين((654))(ص‏174)، شرح النهج لابن ابي
الحديد((655)).
17 ابو الاسود الدولي وعمرو
قدم ابو الاسود((656)) الدولي على معاوية بعد مقتل
علي(رض)، وقد استقامت لمعاوية البلاد، فادنى مجلسه،
واعظم‏جائزته، فحسده عمرو بن العاص، فقدم على معاوية،
فاستاذن عليه في غير وقت الاذن، فاذن له، فقال له معاوية: يا
اباعبداللّه ما اعجلك قبل وقت الاذن؟ فقال: يا امير المؤمنين
اتيتك لامر قد اوجعني وارقني وغاظني، وهو من بعد
ذلك‏نصيحة لامير المؤمنين. قال: وما ذاك يا عمرو. قال: يا امير
المؤمنين ان ابا الاسود رجل مفوه، له عقل وادب، من
مثله‏للكلام يذكر؟ وقد اذاع بمصرك من الذكر لعلي والبغض
لعدوه، وقد خشيت عليك ان يترى((657)) في ذلك حتى
يؤخذبعنقك، وقد رايت ان ترسل اليه، وترهبه، وترعبه، وتسبره،
وتخبره، فانك من مسالته على احدى خبرتين، اما ان يبدي‏لك
صفحته فتعرف مقالته، واما ان يستقبلك فيقول ما ليس من
رايه، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح‏ان
شاء اللّه تعالى. فقال له معاوية: اني امرو واللّه لقلما تركت رايا
لراي امرى‏ء قط الا كنت فيه بين ان ارى ما اكره‏وبين بين،
ولكن ان ارسلت اليه فسالته فخرج من مساءلتي بامر لا اجد
عليه مقدما، ويملؤني غيظا لمعرفتي بما يريد،وان‏الامر فيه ان
يقبل ما ابدى من لفظه، فليس لنا ان نشرح عن صدره وندع ما
وراء ذلك يذهب جانبا. فقال عمرو: اناصاحبك يوم رفع
المصاحف بصفين، وقد عرفت رايي، ولست ارى خلافي وما
آلوك خيرا، فارسل اليه، ولا تفرش مهادالعجز فتتخذه وطيئا.
فارسل معاوية الى ابي الاسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا،
فرحب به معاوية وقال: يا ابا الاسود خلوت اناوعمرو
فتناجزنا((658)) في اصحاب محمد(ص)، وقد احببت ان
اكون من رايك على يقين. قال: سل يا امير المؤمنين عمابدا
لك.
فقال: يا ابا الاسود ايهم كان احب الى رسول اللّه(ص)؟ فقال:
اشدهم حبا لرسول اللّه(ص) واوقاهم له بنفسه.
فنظر معاوية الى عمرو وحرك راسه، ثم تمادى في مسالته،
فقال: يا ابا الاسود فايهم كان افضلهم عندك؟ قال: اتقاهم
لربه‏واشدهم خوفا لدينه.
فاغتاظ معاوية على عمرو، ثم قال: يا ابا الاسود فايهم كان
اعلم؟ قال: اقولهم للصواب وافصلهم للخطاب. قال: يا اباالاسود
فايهم كان اشجع؟ قال: اعظمهم بلاء، واحسنهم عناء واصبرهم
على اللقاء. قال: فايهم كان اوثق عنده؟ قال: من‏اوصى اليه فيما
بعده. قال: فايهم كان للنبي(ص) صديقا؟ قال: اولهم به
تصديقا.
فاقبل معاوية على عمرو، وقال: لا جزاك اللّه خيرا، هل تستطيع
ان ترد مما قال شيئا؟
فقال ابو الاسود: اني قد عرفت من اين اتيت، فهل تاذن لي
فيه؟. فقال: نعم، فقل ما بدا لك. فقال: يا امير المؤمنين ان
هذاالذي ترى هجا رسول اللّه(ص) بابيات من الشعر، فقال
رسول(ص): ((اللهم اني لا احسن ان اقول الشعر،
فالعن‏عمرابكل‏بيت لعنة)) افتراه بعد هذا نائلا فلاحا؟ او مدركا
رباحا؟ وايم اللّه ان امرءا لم يعرف الا بسهم اجيل عليه
فجال،لحقيق ان يكون كليل اللسان، ضعيف الجنان، مستشعرا
للاستكانة، مقارنا للذل والمهانة، غير ولوج فيما بين الرجال،
ولاناظر في تسطير المقال، ان قالت الرجال اصغى، وان قامت
الكرام اقعى((659))، متعيص لدينه لعظيم دينه((660))،
غيرناظر في ابهة الكرام ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجة
ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر
والخداع في‏النار.
فقال عمرو: يا اخا بني الدول، واللّه انك لانت الذليل القليل،
ولولا ما تمت به من حسب كنانة، لاختطفتك من
حولك‏اختطاف الاجدل الحدية((661))، غير انك بهم تطول،
وبهم تصول، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا، سيصير
عليك‏وبالا، وايم اللّه انك لاعدى الناس لامير المؤمنين قديما
وحديثا، وما كنت قط باشد عداوة له منك الساعة، وانك
لتوالي‏عدوه، وتعادي وليه، وتبغيه الغوائل، ولئن اطاعني
ليقطعن عنه لسانك، وليخرجن من راسك شيطانك، فانت
العدوالمطرق‏له اطراق الافعوان((662)) في اصل الشجرة.
فتكلم معاوية فقال: يا ابا الاسود اغرقت في النزع ولم تدع رجعة
لصلحك. وقال لعمرو: فلم تغرق كما اغرقت، ولم تبلغ مابلغت،
غير انه كان منه الابتداء والاعتداء، والباغي اظلم، والثالث احلم،
فانصرفا عن هذا القول الى غيره، وقوما غيرمطرودين، فقام
عمرو وهو يقول:
لعمري لقد اعيا القرون التي مضت
لغش ثوى بين الفؤاد كمين
وقام ابو الاسود وهو يقول:
الا ان عمرا رام ليث خفية((663))
وكيف ينال الذئب ليث عرين
تاريخ ابن عساكر((664))(7/104 106)
18 حديث ابي جعفر وزيد
قال ابو جعفر وزيد بن الحسن: طلب معاوية الى عمرو بن
العاص يوم صفين ان يسوي صفوف اهل الشام، فقال له‏عمرو:
على ان لي حكمي ان قتل اللّه ابن ابي طالب، واستوسقت لك
البلاد؟ فقال: اليس حكمك في مصر؟ قال: وهل مصرتكون
عوضا عن الجنة؟ وقتل ابن ابي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا
يفتر عنهم وهم فيه مبلسون؟ فقال معاوية: ان لك‏حكمك ابا
عبد اللّه ان قتل ابن ابي طالب، رويدا لا يسمع اهل الشام
كلامك. فقال لهم عمرو: يا معشر اهل الشام سوواصفوفكم،
اعيروا ربكم جماجمكم، واستعينوا باللّه الهكم، وجاهدوا عدو
اللّه وعدوكم، واقتلوهم قتلهم اللّه وابادهم(واصبروا ان الارض
للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)((665)). كتاب
صفين لابن‏مزاحم((666))(ص‏123)، شرح ابن ابي
الحديد((667)).