هذه اكبر كلمة تدل على ضؤولة الرجل في دينه، لانها تنم عن
عرفانه بحق امير المؤمنين(ع) ومغبة امر من ناواه، ومع
ذلك‏فهو يحرض الناس على قتاله، ويموه عليهم، وهي ترد قول
من يبرر عمله باجتهاده او بعدله.
19 عمرو وابن اخيه
كان لعمرو بن العاص ابن اخ((668)) اريب من بني سهم جاءه
من مصر، فقال له: الا تخبرني يا عمرو باي راي تعيش
في‏قريش؟ اعطيت دينك، وتمنيت دنيا غيرك، اترى اهل مصر
وهم قتلة عثمان يدفعونها الى معاوية وعلي حي؟ وتراها
ان‏صارت الى معاوية لا ياخذها بالحرف الذي قدمه في
الكتاب((669)) ؟
فقال عمرو: يا ابن اخي ان الامر للّه دون علي ومعاوية. فقال
الفتى:
الا ياهند اخت بني زياد
رمي عمرو بداهية البلاد
رمي عمرو باعور عبشمي
بعيدالقعر محشي الكباد ((670))
له خدع يحار العقل فيها
مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرط في الكتاب عليه حرفا
يناديه بخدعته المنادي
واثبت مثله عمرو عليه
كلا المراين حية بطن وادي
الا يا عمرو ما احرزت مصرا
وما ملت الغداة الى الرشاد
وبعت الدين بالدنيا خسارا
فانت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة اخذت مصرا
ولكن دونها خرط القتاد
وفدت الى معاوية بن حرب
فكنت بها كوافد قوم عاد
واعطيت الذي اعطيت منها
بطرس فيه نضح من مداد
الم تعرف ابا حسن عليا
وما نالت يداه من الاعادي
عدلت به معاوية بن حرب
فيا بعد البياض من السواد
ويا بعد الاصابع من سهيل
ويا بعد الصلاح من الفساد
اتامن ان تراه على خدب
يحث الخيل بالاسل الحداد((671))
ينادي بالنزال وانت منه
قريب فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو: يا ابن اخي لو كنت مع علي وسعني بيتي، ولكني
الان مع معاوية. فقال له الفتى: انك ان لم ترد معاوية لم
يردك.ولكنك تريد دنياه ويريد دينك.
وبلغ معاوية قول الفتى، فطلبه فهرب، فلحق بعلي، فحدثه بامر
عمرو ومعاوية.
قال: فسر ذلك عليا وقربه.
قال: وغضب مروان وقال: ما بالي لا اشترى كما اشتري عمرو؟
فقال معاوية: انما يشترى الرجال لك!.
قال: فلما بلغ عليا ما صنع معاوية وعمرو، قال:
يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على اللّه يشيب الشعرا
يسترق السمع ويغشي البصرا
ما كان يرضى احمد لو اخبرا
ان يقرنوا وصيه والابترا
شاني الرسول واللعين الاخزرا((672))
كلاهما في جنده قد عسكرا
قد باع هذا دينه فافجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا
بملك مصر ان اصاب الظفرا
اني اذا الموت دنا وحضرا
شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لاتؤخر حذرا
لن ينفع الحذار مما قدرا
لما رايت الموت موتا احمرا
عبات همدان وعبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا
قرن اذا ناطح قرنا كسرا
قل لابن حرب لا تدب الحمرا
ارود قليلا ابد منك الضجرا((673))
لا تحسبني يا ابن حرب غمرا((674))
وسل‏بنا بدرا معا وخيبرا
كانت قريش يوم بدر جزرا
اذ وردوا الامر فذموا الصدرا((675))
لو ان عندي يا ابن حرب جعفرا
او حمزة القرم الهمام الازهرا
رات قريش نجم ليل ظهرا
الامامة والسياسة(1/84)، كتاب صفين لابن مزاحم(ص‏24)،
شرح ابن ابي الحديد(1/138)((676)).
20 غانمة بنت غانم وعمرو
بلغ غانمة بنت غانم سب معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم
وهي بمكة، فقالت: يا معشر قريش واللّه ما معاوية
باميرالمؤمنين، ولا هو كما يزعم، هو واللّه شانى‏ء رسول
اللّه(ص)، اني آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينه، ويكثر
منه‏عويله.
فكتب عامل معاوية اليه بذلك، فلما بلغه ان غانمة قد قربت
منه، امر بدار ضيافة فنظفت، والقي فيها فرش، فلما قربت
من‏المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت
المدينة اتت دار اخيها عمرو بن غانم، فقال لها يزيد: ان ابا
عبدالرحمن يامرك ان تصيري الى دار ضيافته، وكانت لا تعرفه.

فقالت: من انت كلاك اللّه؟ قال: يزيد بن معاوية. قالت: فلا
رعاك اللّه يا ناقص لست بزائد. فتمعر لون يزيد، فاتى اباه‏فاخبره،
فقال: هي اسن قريش واعظمهم. فقال يزيد: كم تعد لها يا امير
المؤمنين؟ قال: كانت تعد على عهد رسول‏اللّه(ص) اربعمائة
عام، وهي من بقية الكرام.
فلما كان من الغد، اتاها معاوية فسلم عليها. فقالت: على
المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان. ثم قالت: من منكم
ابن‏العاص((677))؟ قال عمرو: ها اناذا. فقالت: وانت تسب
قريشا وبني هاشم؟ وانت اهل السب، وفيك السب، واليك
يعودالسب، يا عمرو اني واللّه لعارفة بعيوبك وعيوب امك، واني
اذكر لك ذلك عيبا عيبا: ولدت من امة سوداء، مجنونة
حمقاء،تبول من قيام، وتعلوها اللئام، اذا لامسها الفحل كانت
نطفتها انفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد اربعون رجلا، واما
انت‏فقد رايتك غاويا غير راشد، ومفسدا غير صالح، ولقد رايت
فحل زوجتك على فراشك، فما غرت ولا انكرت، واما انت
يامعاوية فما كنت في خير ولا ربيت في خير، فمالك ولبني
هاشم؟ انساء بني امية كنسائهم؟.. الحديث . وهو طويل
وقدحذفنا من‏اوله مقدار ماذكر، راجع المحاسن والاضداد
للجاحظ((678)) (ص‏102 104)، وفي طبعة (118
121)،والمحاسن والمساوئ‏للبيهقي((679)) (1/69 71).
هذه حقيقة الرجل ونفسياته وروحياته منذ العهد الجاهلي،
وفي دور النبوة وبعده الى ما اثاره من فتن التقت بها
حلقتاالبطان في ايام امير المؤمنين(ع)، يوم تحيزه الى ابن
آكلة الاكباد لدحض الحق واهله، وما كان يتحرى فيها من
الغوائل‏وبعدها، الى ان اصطلمه القدر الحاتم، واخترمته منيته
يوم خابت امنيته، فطفق يتقلقل بين اطباق الجحيم،
وتضربه‏زبانيتها بمقامع من حديد، ولعلنا المسناك هذه
الحقيقة باليد، فلن تجد في تضاعيف هاتيك الاعوام له ماثرة
يتبجح بها ابن‏انثى، خلا ما تقوله زبائنه من اعداء اهل البيت(ع)،
وما عسى ان يكون مقيلها من ظل الحق؟ بعد مااثبتناه من
الحقيقة‏الراهنة، ووقفنا عليه من احوال رواة السوء وشناشنهم
في افتعال المدائح للزعانفة المؤتلفة معهم في النزعات
الباطلة.
واما تاميره في غزوة ذات السلاسل فلا يجديه نفعا بعد ما
علمناه من انه كان يتظاهر بالاسلام، ويبطن النفاق في
طيلة‏حياته، وما كان الصالح العام والحكمة الالهية يحدوان
رسول اللّه(ص) على العمل بالبواطن، وانما يجاري القوم
مجاري‏ظواهرهم، لانهم حديثو عهد بالجاهلية، والاسلام لما
يتحكم في افئدتهم، فلو كاشفهم على السرائر لانتكصوا
على‏اعقابهم، وتقهقروا الى جاهليتهم الاولى، فكان يسايرهم
على هذا الظاهر، لعلهم يتمرنون باعتناق الدين، وياخذ
من‏قلوبهم محله، ولذلك انه(ص) كان يعلم بنفاق كثير من
اصحابه كما اخبره اللّه تعالى بقوله (ومن اهل المدينة مردوا
على‏النفاق)((680)) الى غيرها من الايات الكريمة، لكنه يستر
عليهم رعاية لما ابرمه حذار الانتكاث، فكان تامير عمرو آمع
علمه بنفاقه لتلك الحكمة البالغة، غير ملازم لحسن حاله
على ما عرفته من كلام مولانا امير المؤمنين، من انه(ص)
لماعقد له الراية شرط عليه شرطا قد اخلفه.
ويعرب عن حقيقة ما نرتئيه قول ابي عمرو وغيره: ان عمرو بن
العاص ادعى على اهل الاسكندرية انهم قد نقضوا العهدالذي
كان عاهدهم، فعمد اليها فحارب اهلها وافتتحها، وقتل
المقاتلة، وسبى الذرية، فنقم ذلك عليه عثمان، ولم يصح
عنده‏نقضهم العهد، فامر برد السبي الذي سبوا من القرى الى
مواضعهم، وعزل عمرا عن مصر، وولى عبداللّه بن سعد بن
ابي‏سرح العامري مصرا بدله، فكان ذلك بدء الشر بين عمرو بن
العاص وعثمان بن عفان، فلما بدا بينهما من الشر ما بدا،اعتزل
عمرو في ناحية فلسطين باهله، وكان ياتي المدينة احيانا
ويطعن على عثمان((681)). وسعر عليه الدنيا نارا، ولما
اتاه‏قتله قال: انا ابوعبداللّه اذا نكات((682)) قرحة ادميتها.
وولى عمر عمرو بن العاص على مصر، وبقي واليا عليها الى اول
خلافة عثمان، ثم ان عثمان عزله عن الخراج واستعمله‏على
الصلاة، واستعمل على الخراج عبداللّه بن سعد بن ابي سرح، ثم
جمعهما لعبداللّه بن سعد وعزل عمرا، فلما قدم عمروالمدينة
جعل يطعن على عثمان، فارسل اليه يوما عثمان خاليا به.
فقال: يا ابن النابغة ما اسرع ما قمل جربان((683)) جبتك؟انما
عهدك بالعمل عام اول، اتطعن علي وتاتيني بوجه وتذهب
عني بالاخر؟ واللّه لولا اكلة ما فعلت ذلك.
فقال عمرو: ان كثيرا مما يقول الناس وينقلون الى ولاتهم
باطل، فاتق اللّه يا امير المؤمنين في رعيتك. فقال عثمان: واللّه
لقداستعملتك على ظلعك((684))، وكثرة القالة فيك. فقال
عمرو: قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني
راض.فقال عثمان: وانا واللّه لو اخذتك بما اخذك به عمر
لاستقمت، ولكني لنت لك فاجترات علي.
فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه، ياتي عليا مرة
فيؤلبه على عثمان، وياتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان،
وياتي‏طلحة مرة فيؤلبه على عثمان، ويعترض الحاج فيخبرهم
بما احدث عثمان.
ولما قصد الثوار الى المدينة، اخرج لهم عثمان عليا، فكلمهم
فرجعوا عنه، وخطب عثمان الناس فقال: ان هؤلاء القوم من‏اهل
مصر كان بلغهم عن امامهم امر، فلما تيقنوا انه باطل ما بلغهم
عنه رجعوا الى بلادهم. فناداه عمرو بن العاص من‏ناحية
المسجد: اتق اللّه يا عثمان فانك قد ركبت نهابير((685))
وركبناها معك، فتب الى اللّه نتب، فناداه عثمان فقال:
وانك‏هناك يا ابن النابغة، قملت واللّه جبتك منذ تركتك من
العمل. وفي لفظ البلاذري في الانساب((686)): يا ابن النابغة
وانك‏ممن تؤلب علي الطغام، لاني عزلتك عن مصر.
فلما كان حصر عثمان الاول، خرج عمرو من المدينة حتى
انتهى الى ارض له بفلسطين يقال لها: السبع، فنزل بها،
وكان‏يقول: انا ابو عبداللّه اذا حككت قرحة نكاتها، واللّه ان كنت
لالقى الراعي فاحرضه عليه. وفي لفظ البلاذري: وجعل‏يحرض
الناس على عثمان حتى رعاة الغنم.
فبينما هو بقصره بفلسطين، اذ مر به راكب من المدينة، فساله
عمرو عن عثمان، فقال: تركته محصورا. قال عمرو: انا
ابوعبداللّه قد يضرط العير والمكواة في النار، فلما بلغه مقتل
عثمان، قال عمرو: انا ابو عبداللّه، قتلته وانا بوادي السباع، من
يلي‏هذا الامر من بعده؟ ان يله طلحة فهو فتى العرب سيبا، وان
يله ابن ابي طالب فلا اراه الا سيستنظف الحق((687))،
وهواكره من يليه الي.
فلما بلغه ان عليا قد بويع له، اشتد عليه وتربص لينظر ما يصنع
الناس، ثم نمى اليه ان معاوية بالشام يابى ان يبايع عليا،وانه
يعظم قتل عثمان، ويحرض على الطلب بدمه، فاستشار ابنيه
عبداللّه ومحمدا في الامر، وقال: ماتريان؟ اما علي فلا خيرعنده
وهو رجل يدل((688)) بسابقته، وهو غير مشركي في شي‏ء من
امره. فقال عبداللّه بن عمرو: توفي النبي(ص) وهوعنك راض،
وتوفي ابو بكر(رض) وهو عنك راض، وتوفي عمر(رض) وهو
عنك راض، ارى ان تكف يدك وتجلس في‏بيتك، حتى يجتمع
الناس على امام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو: انت ناب من
انياب العرب، فلا ارى ان يجتمع هذا الامروليس لك فيه صوت
ولا ذكر.
قال عمرو: اما انت يا عبد اللّه فامرتني بالذي هو خير لي في
آخرتي واسلم في ديني، واما انت يا محمد فامرتني بالذي
انبه‏لي في دنياي واشر لي في آخرتي.
ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية،
فوجد اهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان،
فقال‏عمرو بن العاص: انتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة
المظلوم. ومعاوية لا يلتفت الى قول عمرو، فقال ابنا عمرو
لعمرو:الاترى الى معاوية لا يلتفت الى قولك؟! انصرف الى
غيره، فدخل عمرو على معاوية، فقال: واللّه لعجب لك اني
ارفدك بماارفدك وانت معرض عني؟ ام واللّه ان قاتلنا معك
نطلب بدم الخليفة، ان في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل
من‏تعلم‏سابقته وفضله وقرابته، ولكنا انما اردنا هذه الدنيا.
فصالحه معاوية، وعطف عليه.
انساب الاشراف للبلاذري(5/74، 87)، تاريخ الطبري(5/108
111 و224)، كامل ابن الاثير(3/68)، تذكرة‏السبط(ص‏49)،
جمهرة رسائل العرب(1/388)((689)).
وكان بعد تلك‏المساومة‏المشؤومة يحرض الناس على قتل
الامام امير المؤمنين، كما فعله على عثمان حتى قتله، وافتخر
به‏بقوله: انا ابو عبداللّه قتلته وانا بوادي السباع. ثم جعل قميصه
وسيلة النيل الى الرتبة والراتب، وقام بطلب دمه، قائلا:
ان‏في‏النفس من ذلك ما فيها.
وممن حثهم على امير المؤمنين والبهم عليه حريث مولى
معاوية بن ابي سفيان. قال ابن عساكر في
تاريخه((690))(4/113):قال معاوية لحريث: ات ق عليا ثم ضع
رمحك حيث شئت. فقال له عمرو بن العاص: انك واللّه ياحريث
لو كنت‏قرشيالاحب معاوية ان تقتل عليا ، ولكن كره ان يكون
لك حظها! فان رايت منه فرصة فاقتحم عليه.
ولما ق تل امير المؤمنين(ع) استبشر بذلك، وبشره به سفيان
بن عبد شمس بن ابي وقاص. قال ابن عساكر
في‏تاريخه((691))(6/181): لما طعن امير المؤمنين علي بن
ابي طالب(رض)، ذهب سفيان يبشر معاوية وعمرو بن
العاص‏بقتله، فكتب معاوية الى عمرو وهو يقول:
وقتك واسباب المنون كثيرة
منية شيخ من لؤي بن غالب
فيا عمرو مهلا انما انت عمه
وصاحبه دون الرجال الاقارب
نجوت وقد بل المرادي سيفه
من ابن ابي شيخ الاباطح طالب
ويضربني بالسيف آخر مثله
فكانت عليه تلك ضربة لازب
وانت تناغي كل يوم وليلة‏بمصرك بيضا كالظباء
الشوازب((692))
هذه نفسية الرجل وتمام حقيقته اللائحة على تجارته البائرة،
وصفقته الخاسرة، وبضاعته المزجاة من الدين المبطن
بالالحادوالمكتنف بالنفاق، ولو لم يكن كذلك لما اقتنع بتلك
المساومة، وهو يعرف الثمن والمثمن، ويعلم سابقة امير
المؤمنين،وفضله، وقرابته، ويقول: ان يله ابن ابي طالب فلا اراه
الا سيستنظف الحق. ومع ذلك يظهر بغضه وعداءه بقوله: وهو
اكره‏من يليه الي، ويعترف بالحق ويتحيز الى خلافه، ويعرف
الموضع الصالح للخلافة، ثم يميل مع الهوى ويقول: انما اردنا
هذه‏الدنيا. فيبيع دينه لمعاوية بثمن بخس مصر وكورها
ويؤلب الناس على الامام الطاهر بنص الكتاب العزيز،
ويسربقتله.ولقد صارح بكل ذلك صراحة لاتقبل التاويل، وهي
مستفادة من نصوصه ونصوص الصحابة الاولين، وبها عرف
في‏التاريخ الصحيح، كما سمعت من دون اي استنباط او تحوير،
فلا بارك اللّه في صفقة يمينه، ولا غارله بخير.
حديث شجاعته
لم نعهد لابن النابغة موقفا مشهودا في المغازي والحروب، سواء
في ذلك العهد الجاهلي ودور النبوة. واما وقعة صفين فلم‏يؤثر
عنه سوى مخزاة سواته مع امير المؤمنين وفراره من الاشتر،
وقد بقي عليه عار الاولى مدى الحقب والاعوام، وجرى‏بها
المثل، وغنى بها اهل الحجاز، وجاء في شعر عتبة بن ابي
سفيان:
سوى عمرو وقته خصيتاه
نجا ولقلبه منه وجيب((693))
وفي شعر معاوية بن ابي سفيان يذكر عمرا وموقفه، كما ياتي:
فقد لاقى ابا حسن عليا
فب الوائلي مب خازي
فلو لم يبد عورته للاقى
به ليثا يذلل كل غازي
وفي شعر الحارث بن نصر السهمي:
فقولا لعمرو وابن ارطاة ابصرا
سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا الا الحيا وخصاكما
هما كانتا للنفس واللّه واقيه
وفي شعر الامير ابي فراس:
ولا خير في دفع الردى بمذلة
كما ردها يوما بسواته عمرو
وفي شعر الزاهي البغدادي:
وصد عن عمرو وبسر كرما
اذ لقيا بالسواتين من شخص
وقال آخر:
ولا خير في صون الحياة‏بذلة
كما صانها يومابذلته عمرو
وقال عبد الباقي الفاروقي العمري:
وليلة الهرير قد تكشفت
عن سواة ابن العاص لما غلبا
فحاد عنه مغضبا حيدرة
وعف والعفو شعار النجبا
ولو يشا ركب فيه زجة
تركيب مزجي كمعدي كربا
وكان قد تكرر منه هذا العمل المخزي كما سياتي، ولو كان
للرجل شي‏ء من البسالة لجبه معيريه بتعداد مشاهده،
وسلقهم‏بلسان حديد، وهو ذلك الصلف المفوه، وفيما امر من
الحروب كان الزحف للجيش الباسل دونه، فلم يسط امامه،
وانما كان‏رئيا في امرهم يدير وجه الحيلة فيه، كما انه كان في
صفين كذلك، لم يبارح سرادق معاوية، وطفق يبديه دهاءه الا
في‏موقفين سيوافيك تفصيلهما، ولذلك كله اشتهر بالدهاء
دون الشجاعة.
قال البيهقي في المحاسن والمساوئ((694))(1/39): قال
عمرو بن العاص لابنه عبداللّه يوم صفين: تبين لي هل ترى
علي بن‏ابي طالب(رض)؟ قال عبداللّه: فنظرت اليه فرايته،
فقلت: يا ابه هاهو ذاك على بغلة شهباء، عليه قباء
ابيض‏وقلنسوة‏بيضاء. قال: فاسترجع وقال: واللّه ما هذا بيوم ذات
السلاسل ولا بيوم اليرموك ولا بيوم اجنادين، وددت ان‏بيني
وبين موقفي بعد المشرقين.
هذا هوالذي عرفه منه معاصروه، وستقف على احاديثهم، نعم
جاء ابن عبدالبر بعد لاي من عمر الدهر، فتهجس
في‏الاستيعاب((695)) فعده من فرسان قريش وابطالهم في
الجاهلية، مذكورا بذلك فيهم. ولعل ابن منير((696)) المولود
بعد ابن‏عبد البر بعشر سنين وقف على كلامه في الاستيعاب
وحكمه ببطولة الرجل، فقال في قصيدته التترية:
واقول ان اخطا معا
وية فما اخطا القدر
هذا ولم يغدر معا
وية ولا عمرو مكر
بطل بسواته يقاتل
لابصارمه الذكر
فاليك ما يؤثر في مواقفه، حتى ترى عيه عن القحوم الى
الفوارس في مضمار النضال، والدنو من نقع الحومة، وتقف
على‏حقيقته من هذه الناحية ايضا، وتعرف قيمة كلام ابن حجر
في الاصابة(3/2): من ان النبي(ص) كان يقربه ويدنيه،
لمعرفته‏وشجاعته. ولا نسائله متى قربه وادناه.
امير المؤمنين وعمرو في معترك القتال بصفين
كان عمرو بن العاص عدوا للحرث بن النضر الخثعمي، وكان
من اصحاب علي(ع)، وكان علي قد تهيبته فرسان الشام،وملا
قلوبهم بشجاعته، وامتنع كل منهم من الاقدام عليه، وكان
عمرو ما جلس مجلسا الا ذكر فيه الحرث بن النضرالخثعمي
وعابه، فقال الحرث:
ليس عمرو بتارك ذكره الحرب
مدى الدهر او يلاقي عليا
واضع السيف فوق منكبه الاي
من لا يحسب الفوارس شيا
ليت عمرا يلقاه في حومة النق
ع وقد امست السيوف عصيا
حيث يدعو البراز حامية القوم
اذا كان بالبراز مليا
فوق شهب مثل السحوق((697)) من النخ
ل ينادي المبارزين اليا
ثم يا عمرو تستريح من الفخر
وتلقى به فتى هاشميا
فالقه ان اردت مكرمة الدهر
او الموت كل ذاك عليا
فشاعت هذه الابيات حتى بلغت عمرا، فاقسم باللّه ليلقين عليا
ولومات الف موتة، فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل‏عليه
برمحه، فتقدم علي وهو مخترط سيفا، معتقل رمحا، فلما رهقه
همز فرسه ليعلو عليه، فالقى عمرو نفسه عن فرسه الى‏الارض
شاغرا برجليه، كاشفا عورته، فانصرف عنه علي لافتا وجهه
مستدبرا له، فعد الناس ذلك من مكارم‏علي‏وسؤدده، وضرب
بها المثل.
كتاب صفين لابن مزاحم((698))(ص‏224)، شرح ابن ابي
الحديد((699))(2/110).
وقال ابن قتيبة في الامامة والسياسة((700))(1/91): ذكروا ان
عمرا قال لمعاوية: اتجبن عن علي وتتهمني في
نصيحتي‏اليك؟ واللّه لابارزن عليا ولومت الف موتة في اول
لقائه، فبارزه عمرو فطعنه علي فصرعه، فاتقاه بعورته، فانصرف
عنه‏علي وولى بوجهه دونه، وكان علي(رض) لم ينظر قط الى
عورة احد حياء وتكرما وتنزها عما لا يحل ولا يجل بمثله
كرم‏اللّه وجهه.
وقال المسعودي في مروج الذهب((701))(2/25): ان معاوية
اقسم على عمرو لما اشار عليه بالبراز الا ان يبرز الى علي،فلم
يجد عمرو من ذلك بدا فبرز، فلما التقيا عرفه علي، وشال
السيف ليضربه به، فكشف عمرو عن عورته وقال:مكره‏اخوك
لابطل. فحول علي وجهه وقال: ((قبحت)) ورجع عمرو الى
مصافه.
اجتمع عند معاوية في بعض ليالي صفين عمرو بن العاص،
وعتبة بن ابي سفيان، والوليد بن عقبة، ومروان بن
الحكم،وعبد اللّه بن عامر، وابن طلحة الطلحات الخزاعي، فقال
عتبة: ان امرنا وامر علي بن ابي طالب لعجيب، ما فينا الا
موتورمجتاح ، اما انا فقتل جدي عتبة بن ربيعة، واخي حنظلة،
وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر، و اما انت يا وليد فقتل
اباك‏صبرا، واما انت يا ابن عامر فصرع اباك وسلب عمك، واما
انت يا ابن طلحة فقتل اباك يوم الجمل، وايتم اخوتك، واماانت
يا مروان فكما قال الشاعر((702)).
وافلتهن علباء جريضا
ولو ادركته صفر الوطاب((703))
فقال معاوية: هذا الاقرار، فاي غير غيرت((704))؟ قال مروان:
واي غير تريد؟ قال: اريد ان تشجروه بالرماح. قال:واللّه يا معاوية
ما اراك الا هاذيا او هازئا، وما ارانا الا ثقلنا عليك. فقال ابن
عقبة:
يقول لنا معاوية بن حرب
اما فيكم لواتركم طلوب
يشد على ابي حسن علي
باسمر لاتهجنه العكوب((705))
فيهتك مجمع اللبات منه
ونقع القوم مطرد يثوب
فقلت له اتلعب يا ابن هند
كانك بيننا رجل غريب
اتغرينا بحية بطن واد
اذا نهشت فليس لها طبيب
وما ضبع يدب ببطن واد
اتيح((706)) له به اسد مهيب
باضعف حيلة منا اذا ما
لقيناه ولقياه عجيب
دعا للقاه في الهيجاء لاق
فاخطا نفسه الاجل القريب
سوى عمرو وقته خصيتاه
نجا ولقلبه منه وجيب
كان القوم لما عاينوه
خلال النقع ليس لهم قلوب
لعمر ابي معاوية بن حرب
وما ظني ستلحقه العيوب
لقد ناداه في الهيجا علي
فاسمعه ولكن لا يجيب
فغضب عمرو، وقال: ان كان الوليد صادقا فليلق عليا، او فليقف
حيث يسمع صوته، وقال عمرو:
يذكرني الوليد دعا علي
وبطن المرء يملؤه الوعيد
متى تذكر مشاهده قريش
يطر من خوفه القلب الشديد
فاما في اللقاء فاين منه
معاوية بن حرب والوليد
وعيرني الوليد لقاء ليث
اذا مازار((707)) هابته الاسود
لقيت ولست اجهله عليا
وقد بلت من العلق اللبود((708))
فاطعنه ويطعنني خلاسا((709))
وماذا بعد طعنته اريد
فرمها انت يا ابن ابي معيط
وانت الفارس البطل‏النجيد((710))
واقسم لو سمعت ندا علي
لطار القلب وانتفخ الوريد
ولو لاقيته شقت جيوب
عليك ولطمت فيك‏الخدود((711))
وفي رواية سبط ابن الجوزي((712)): ثم التفت الوليد الى
عمرو بن العاص وقال: ان لم تصدقوني فسلوا. اراد تبكيت‏عمرو.
قال هشام بن محمد: ومعنى هذا الكلام: ان عليا خرج يوما من
ايام صفين، فراى عمرو بن العاص في جانب العسكر ولم‏يعرفه،
فطعنه فوقع، فبدت عورته، فاستقبل عليا فاعرض عنه، ثم
عرفه فقال: ((يا ابن النابغة انت طليق دبرك ايام‏عمرك)) وكان
قد تكرر منه هذا الفعل.

رواية ابن عباس
روى نصر((713)) باسناده عن ابن عباس قال: تعرض عمرو بن
العاص لعلي يوما من ايام صفين، وظن انه يطمع منه في‏غرة
اي: في غفلة فيصيبه، فحمل عليه علي(ع) فلما كاد ان
يخالطه اذرى اي: القى نفسه عن فرسه، ورفع
ثوبه،وشغر((714)) برجله فبدت عورته، فصرف(ع) وجهه عنه،
وقام معفرا بالتراب، هاربا على رجليه، معتصما بصفوفه،
فقال‏اهل العراق: يا امير المؤمنين افلت الرجل. فقال: ((اتدرون
من هو؟)). قالوا: لا. قال: ((انه عمرو بن العاص، تلقاني
بسواته‏فذكرني بالرحم، لفظ ابن كثير فصرفت وجهي
عنه)).
ورجع عمرو الى معاوية فقال: ما صنعت يا ابا عبداللّه؟ فقال:
لقيني علي فصرعني. قال: احمد اللّه وعورتك وفي لفظ
ابن‏كثير: احمد اللّه واحمد استك واللّه اني لاظنك لو عرفته
لما اقتحمت عليه. وقال معاوية في ذلك:
الا للّه من هفوات عمرو
يعاتبني على تركي برازي
فقد لاقى ابا حسن عليا
فب الوائلي مب خازي
فلولم يبد عورته للاقى
به ليثا يذلل كل غازي
له كف كان براحتيها
منايا القوم يخطف خطف بازي
فان تكن المنية اخطاته
فقد غنى بها اهل الحجاز
فغضب عمرو وقال: ما اشد تعظيمك عليا في كسري هذا وفي
لفظ ابن ابي الحديد: ما اشد تغبيطك ابا تراب في‏امري((715))
هل انا الا رجل لقيه ابن عمه فصرعه؟! افترى السماء قاطرة
لذلك دما؟! قال: لا، ولكنها معقبة لك خزيا.
كتاب صفين((716))(ص‏216)، شرح ابن ابي
الحديد((717))(2/287)، تاريخ ابن كثير((718))(7/263).
معاوية وعمرو
استاذن عمرو بن العاص على معاوية بن ابي سفيان، فلما دخل
عليه استضحك معاوية، فقال عمرو: ما اضحكك يا
اميرالمؤمنين؟ ادام اللّه سرورك. قال: ذكرت ابن ابي طالب
وقد غشيك بسيفه فاتقيته ووليت. فقال: اتشمت بي يا
معاوية؟واعجب من هذا يوم دعاك الى البراز، فالتمع لونك،
واطت((719)) اضالعك، وانتفخ منخرك، واللّه لو
بارزته‏لاوجع‏قذالك((720))، وايتم عيالك، وبزك سلطانك،
وانشا عمرو يقول:
معاوي لا تشمت بفارس بهمة
لقي فارسا لا تعتريه الفوارس
معاوي ان ابصرت في الخيل مقبلا
ابا حسن يهوي دهتك الوساوس
وايقنت ان الموت حق وانه
لنفسك ان لم تمض في الركض حابس
فانك لو لاقيته كنت بومة((721))
اتيح لها صقر من‏الجو رايس((722))
وماذا بقاء القوم بعد اختباطه؟
وان امرا يلقى عليا لايس
دعاك فصمت دونه الاذن هاربا
فنفسك قد ضاقت عليهاالامالس((723))
وايقنت ان الموت اقرب موعد
وان الذي ناداك فيها الدهارس((724))
وتشمت بي ان نالني حد رمحه
وعضضني ناب من‏الحرب ناهس((725))
ابى اللّه الا انه ليث غابة
ابو اشبل تهدى اليه الفرائس
واي امرى لاقاه لم يلف شلوه
بمعترك تسفي عليه الروامس((726))
فان كنت في شك فارهج عجاجه
والا فتلك الترهات البسابس((727))
فقال معاوية: مهلا يا ابا عبد اللّه؟ ولا كل هذا. قال: انت
استدعيته.
وفي لفظ ابن قتيبة في عيون الاخبار (1/169): راى عمرو بن
العاص معاوية يوما يضحك، فقال له: مم تضحك يا
اميرالمؤمنين؟ اضحك اللّه سنك. قال: اضحك من حضور
ذهنك عند ابدائك سواتك يوم ابن ابي طالب، اما واللّه لقد
وافقته‏منانا كريما، ولو شاء ان يقتلك لقتلك.
قال عمرو: يا امير المؤمنين، اما واللّه اني لعن يمينك، حين
دعاك الى البراز فاحولت عيناك، وربا سحرك((728))، وبدا
منك‏ما اكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك او دع.
وفي لفظ البيهقي في المحاسن والمساوئ((729))(1/38):
دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ناس، فلما
رآه‏مقبلااستضحك، فقال: يا امير المؤمنين اضحك اللّه سنك
وادام سرورك واقر عينك، ما كل ما ارى يوجب الضحك.
فقال معاوية: خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت اهل العراق،
فحمل عليك علي بن ابي طالب(رض) فلما غشيك
طرحت‏نفسك عن دابتك وابديت عورتك، كيف حضرك
ذهنك في تلك الحال؟ اما واللّه لقد وافقت هاشميا منافيا، ولو
شاء ان‏يقتلك لقتلك.
فقال عمرو: يا معاوية ان كان اضحكك شاني فمن نفسك
فاضحك، اما واللّه لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له
من‏صفحتي لاوجع قذالك، وايتم عيالك، وانهب مالك، وعزل
سلطانك، غير انك تحرزت منه بالرجال في ايديها العوالي،
امااني قد رايتك يوم دعاك الى البراز فاحولت عيناك، وازبد
شدقاك، وتنشر منخراك، وعرق جبينك، وبدا من اسفلك
مااكره ذكره!. فقال معاوية: حسبك حيث بلغت لم نرد كل هذا.
وفي لفظ الواقدي: قال معاوية يوما لعمرو بن العاص: يا ابا
عبداللّه لا اراك الا ويغلبني الضحك. قال: بماذا؟ قال: اذكر
يوم‏حمل عليك ابو تراب في صفين، فاذريت نفسك فرقا من
شبا سنانه، وكشفت سواتك له. فقال عمرو: انا منك اشد
ضحكا،اني لاذكر يوم دعاك الى البراز فانتفخ سحرك، وربا
لسانك في فمك، وعصب ريقك، وارتعدت فرائصك، وبدا منك
ما اكره‏ذكره لك. فقال معاوية: لم يكن هذا كله، وكيف يكون؟
ودوني عك والاشعريون. قال: انك لتعلم ان الذي وصفت دون
مااصابك، وقد نزل ذلك بك ودونك عك والاشعريون، فكيف
كانت حالك لو جمعكما ماقط الحرب؟ قال: يا ابا عبداللّهخض
بنا الهزل الى الجد، ان الجبن والفرار من علي لاعار على احد
فيهما. شرح ابن ابي الحديد((730))(2/111).
قال نصر في كتابه((731))(ص‏229): وكان معاوية لم يزل
يشمت عمرا، ويذكر يومه المعهود ويضحك، وعمرو يعتذر
بشدة‏موقفه بين يدي امير المؤمنين، فشمت به معاوية يوما
وقال: لقد انصفتكم اذ لقيت سعيد بن قيس وفررتم، وانك
لجبان،فغضب عمرو ثم قال: واللّه لو كان عليا ما قحمت عليه، يا
معاوية فهلا برزت الى علي اذ دعاك ان كنت شجاعا كماتزعم؟
وقال عمرو في ذلك:
تسير الى ابن ذي يزن سعيد
وتترك في العجاجة من دعاكا
فهل لك في ابي حسن علي
لعل اللّه يمكن من قفاكا
دعاك الى النزال فلم تجبه
ولو نازلته تربت يداكا
وكنت اصم اذ ناداك عنه
وكان سكوته عنه مناكا
فب الكبش قد طحنت رحاه
بنجدته ولم تطحن رحاكا
فما انصفت صحبك يا ابن هند
اتفرقه وتغضب من كفاكا
فلا واللّه ما اضمرت خيرا
ولا اظهرت لي الا هواكا
اشار عمرو بن العاص في هذه الابيات الى مارواه نصر في كتاب
صفين((732)) (ص‏140) وغيره من المؤرخين: من‏ان‏عليا(ع)
قام يوم صفين بين الصف ين، ثم نادى: ((يا معاوية)). يكررها
فقال معاوية: اسالوه ما شانه؟ قال: ((احب ان‏يظهر لي فاكلمه
كلمة واحدة)) فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص، فلما قارباه
لم يلتفت الى عمرو، وقال لمعاوية: ((ويحك‏علام يقتتل الناس
بيني وبينك، ويضرب بعضهم بعضا؟ ابرز الي، فاينا قتل صاحبه
فالامر له)). فالتفت معاوية الى عمرو،فقال: ما ترى يا ابا عبداللّه
فيما هاهنا، ابارزه؟! فقال عمرو: لقد انصفك الرجل! واعلم انه
ان نكلت عنه لم تزل سبة عليك‏وعلى عقبك ما بقي عربي.
فقال معاوية: يا عمرو ليس مثلي يخدع عن نفسه، واللّه مابارز
ابن ابي طالب رجلا قط الا سقى‏الارض من دمه. ثم انصرف
معاوية راجعا حتى انتهى الى آخر الصفوف، وعمرو معه.
خرج علي(ع) ذات يوم في صفين منقطعا من خيله ومعه
الاشتر، يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه، وعلي يقول:
اني علي فسلوا لتخبروا
ثم ابرزوا الى الوغى او ادبروا
سيفي حسام وسناني ازهر
منا النبي الطيب المطهر
وحمزة الخير ومنا جعفر
له جناح في الجنان اخضر
ذا اسد اللّه وفيه مفخر
هذا بهذا وابن هند محجر
مذبذب مطرد مؤخر
اذ برز له بسر بن ارطاة مقنعا في الحديد لا يعرف، فناداه: ابرز
الي ابا حسن! فانحدر اليه على تؤدة((733)) غير
مكترث‏به،حتى اذا قاربه طعنه وهو دارع، فالقاه على الارض،
ومنع الدرع السنان ان يصل اليه، فاتقاه بسر بعورته، وقصد
ان‏يكشفها يستدفع باسه، فانصرف عنه(ع) مستدبرا له، فعرفه
الاشتر حين سقط، فقال: يا امير المؤمنين هذا بسر بن
ارطاة،هذا عدو اللّه وعدوك. فقال: ((دعه عليه لعنة اللّه، ابعد
ان فعلها؟)) فحمل ابن عم لبسر شاب على علي وهو يقول:
ارديت بسرا والغلام ثائره
ارديت شيخا غاب عنه ناصره
وكلنا حام لبسر واتره
فحمل عليه الاشتر وهو يقول:
اكل يوم رجل شيخ شاغره
وعورة تحت العجاج ظاهره
تبرزها طعنة كف واتره
عمرو وبسر رميا بالفاقره
فطعنه الاشتر فكسر صلبه، وقام بسر من طعنة علي، وولت
خيله، وناداه علي: يا بسر معاوية كان احق بهذا منك. فرجع‏بسر
الى معاوية، فقال له معاوية: ارفع طرفك قد ادال((734)) اللّه
عمرا منك. فقال في ذلك الحارث بن نضرالسهمي((735)):
افي كل يوم فارس تندبونه
له عورة تحت العجاجة باديه
يكف بها عنه علي سنانه
ويضحك منها في الخلاء معاويه
بدت امس من عمرو فقنع راسه
وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو وابن ارطاة ابصرا
سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا الا الحيا وخصاكما
هما كانتا للنفس واللّه واقيه
فلولاهما لم تنجوا من سنانه
وتلك بما فيها عن العود ناهيه
متى تلقيا الخيل المشيجة صيحة((736))وفيها علي
فاتركاالخيل ناحيه
وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا
ونار الوغى ان التجارب كافيه
وان كان منه بعد في النفس حاجة
فعودوا الى ما شئتما هي ماهيه
كتاب صفين((737))(ص‏246)، الاستيعاب((738))(1/67)،
شرح ابن ابي الحديد((739))(2/300)، مطالب
السؤول(ص‏43)، تاريخ ابن كثير((740))(4/20)، نور
الابصار((741))(ص‏95).
ينبئنا التاريخ ان عمرا ليس باول رجل كشف عن سواته من
باس امير المؤمنين، وانما قلد طلحة بن ابي طلحة، فانه
لماحمل عليه امير المؤمنين يوم احد وراى انه مقتول لا محالة،
استقبله بعورته وكشف عنها. راجع تاريخ ابن
كثير(4/20)وذكره الحلبي في سيرته((742))(2/247) ثم قال:
وقع لسيدنا علي كرم اللّه وجهه مثل ذلك في يوم صفين
مرتين: الاولى:حمل على بسر بن ارطاة، والثانية: حمل على
عمرو بن العاص، فلما راى انه مقتول كشف عن عورته،
فانصرف عنه علي آكرم اللّه وجهه.
الاشتر وعمرو بن العاص في معترك القتال‏بصفين
ان معاوية دعا يوما بصفين مروان بن الحكم، فقال: ان الاشتر
قد غمني واقلقني، فاخرج بهذه الخيل في يحصب‏والكلاعيين،
فالقه، فقاتل بها. فقال مروان: ادع لها عمرا فانه شعارك دون
دثارك. قال: وانت نفسي دون وريدي. قال: لوكنت كذلك
الحقتني به في العطاء، او الحقته بي في الحرمان، ولكنك
اعطيته ما في يدك، ومنيته ما في يد غيرك، فان‏غلبت‏طاب له
المقام، وان غلبت خف عليه الهرب. فقال معاوية: سيغني اللّه
عنك. قال: اما الى اليوم فلم يغن.
فدعا معاوية عمرا وامره بالخروج الى الاشتر. فقال: اما اني لا
اقول لك ما قال مروان. قال: فكيف تقول؟ وقد قدمتك‏واخرته،
وادخلتك واخرجته. قال: اما واللّه ان كنت فعلت لقد قدمتني
كافيا، وادخلتني ناصحا، وقد اكثر القوم عليك في‏امر مصر وان
كان لا يرضيهم الا اخذها فخذها. ثم قام فخرج في تلك الخيل،
فلقيه الاشتر امام القوم وهو يقول:
ياليت شعري كيف لي بعمرو
ذاك الذي اوجبت فيه نذري
ذاك الذي اطلبه بوتري
ذاك الذي فيه شفاء صدري
ذاك الذي ان القه بعمري
تغلي به عند اللقاء قدري
اجعله فيه طعام النسر
او لا فربي عاذري بعذري
فلما سمع عمرو هذا الرجز وعرف انه الاشتر، فشل وجبن،
واستحيا ان يرجع، واقبل نحو الصوت، وقال:
يا ليت شعري كيف لي بمالك
كم جاهل خيبته وحارك((743))
وفارس قتلته وفاتك
ومقدم آب بوجه حالك((744))
مازلت دهري عرضة المهالك
فغشيه الاشتر بالرمح فزاغ عنه عمرو فلم يصنع الرمح شيئا،
ولوى عمرو عنان فرسه، وجعل يده على وجهه، وجعل
يرجع‏راكضا نحو عسكره، فنادى غلام من يحصب: يا عمرو
عليك العفا ماهبت الصبا!.
كتاب صفين((745))(ص‏233)، شرح ابن ابي
الحديد((746))(2/295).
ينبئك صدر هذا الحديث عن نفسيات اولئك المناضلين عن
معاوية، الدعاة الى امامته، ويعرب عن غايات تلك الفئة‏الباغية
بنص النبي الاطهر، اماما وماموما في تلك الحرب الزبون، فما
ينبغي لي ان اكتب عن امام يكون مثل عمرو بن‏العاص شعاره،
ومثل مروان بن الحكم نفسه؟ وما يحق لك ان تعتقد في ماموم
هذه محاوراته في معترك القتال مع امامه‏المفترضة عليه
طاعته ان صحت الاحلام ومشاغبته دون الرتبة والراتب؟!
ابن عباس وعمرو
حج عمرو بن العاص وقام بالموسم، فاطرى معاوية وبني امية
وتناول بني هاشم، ثم ذكر مشاهده بصفين، فقال ابن‏عباس: يا
عمرو انك بعت دينك من معاوية، فاعطيته ما في يدك ومناك
ما في يد غيره، فكان الذي اخذ منك فوق الذي‏اعطاك، وكان
الذي اخذت منه دون ما اعطيته، وكل راض بما اخذ واعط‏ى،
فلما صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل‏والتنقص، حتى
لو ان نفسك في يدك لالقيتها اليه، وذكرت يومك مع ابي
موسى فلا اراك فخرت الا بالغدر، ولا منيت الا بالفجور والغش،
وذكرت مشاهدك بصفين فواللّه ما ثقلت علينا وطاتك، ولقد
كشفت فيها عورتك، ولا نكتنا فيهاحربك، ولقد كنت فيها
طويل اللسان، قصير السنان، آخر الحرب اذا اقبلت، واولها اذا
ادبرت، لك يدان: يد لا تبسطها الى‏خير، ويد لا تقبضها من شر،
ووجهان: وجه مؤنس ووجه موحش، ولعمري ان من باع دينه
بدنيا غيره لحري ان يطول‏حزنه على ما باع واشترى، لك بيان
وفيك خطل، ولك راي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد،
فاصغر عيب فيك اعظم‏عيب غيرك.
فقال عمرو: اما واللّه ما في قريش احد اثقل وطاة علي منك، ولا
لاحد من قريش قدر عندي مثل قدرك.
البيان والتبيين((747))(2/239)، العقد
الفريد((748))(2/136)، شرح ابن ابي الحديد((749))(1/196)
نقلا عن البلاذري.
ابن عباس وعمرو في حفلة اخرى
روى المدائني قال: وفد عبد اللّه بن عباس على معاوية مرة
وعنده ابنه يزيد، وزياد بن سمية، وعتبة بن‏ابي سفيان،
ومروان‏بن‏الحكم، وعمرو بن العاص، والمغيرة ابن شعبة،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن ام الحكم، فقال عمرو بن
العاص:هذا واللّه يا امير المؤمنين نجوم اول الشر وافول آخر
الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالحملة، وانتهز منه
الفرصة،واردع بالتنكيل به غيره، وشرد به من خلفه.
فقال ابن عباس: يا ابن النابغة ضل واللّه عقلك، وسفه حلمك،
ونطق الشيطان على لسانك، هلا توليت ذلك بنفسك
يوم‏صفين حين دعيت نزال((750))، وتكافح الابطال، وكثر
الجراح، وتقصفت((751)) الرماح، وبرزت الى امير
المؤمنين‏مصاولا، فانكفا نحوك بالسيف حاملا، فلما رايت
الكواثر من الموت، اعددت حيلة السلامة قبل لقائه، والانكفاء
عنه بعداجابة دعائه، فمنحته رجاء النجاة عورتك، وكشفت له
خوف باسه سواتك، حذرا ان يصطلمك بسطوته،
اويلتهمك((752)) بحملته ثم اشرت على معاوية كالناصح له
بمبارزته، وحسنت له التعرض لمكافحته، رجاء ان
تكتفى‏مؤونته، وتعدم صورته، فعلم غل صدرك، وما انحنت
عليه من النفاق اضلعك، وعرف مقر سهمك في غرضك،
فاكفف‏غرب لسانك، واقمع عوراء لفظك، فانك بين اسد خادر،
وبحر زاخر، ان تبرزت للاسد افترسك، وان عمت في البحر
قمسك‏ اي: غمسك واغرقك. شرح ابن ابي
الحديد((753))(2/105)، جمهرة الخطب((754))(2/93).
عبد اللّه المرقال وعمرو
كان في نفس معاوية من يوم صفين احن على هاشم بن عتبة
بن ابي وقاص المرقال وولده عبد اللّه، فلما استعمل معاوية‏زيادا
على العراق كتب اليه:
اما بعد: فانظر عبد اللّه بن هاشم، فشد يده الى عنقه، ثم ابعث
به الي، فحمله زياد من البصرة مقيدا مغلولا الى دمشق،وقد
كان زياد طرقه بالليل في منزله بالبصرة، فادخل الى معاوية
وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو بن العاص:هل
تعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا الذي يقول ابوه يوم صفين:
اني شريت النفس لما اعتلا
واكثر اللوم وما اقلا
اعور يبغي اهله محلا
قد عالج الحياة حتى ملا
لابد ان يفل او يفلا
اسلهم بذي الكعوب سلا
لا خير عندي في كريم ولى
فقال عمرو متمثلا:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى
وتبقى حزازات النفوس كماهيا
وانه لهو، دونك يا امير المؤمنين الضب المضب((755))،
فاشخب اوداجه على اسباجه اثباجه ولا ترجعه الى
اهل‏العراق فانهم اهل فتنة ونفاق، وله مع ذلك هوى يرديه
وبطانة تغويه، فوالذي نفسي بيده لئن افلت من
حبائلك‏ليجهزن‏اليك جيشا تكثر صواهله لشر يوم لك.
فقال عبد اللّه وهو المقى د: يا ابن الابتر هلا كانت هذه الحماسة
عندك يوم صفين؟ ونحن ندعوك الى البراز، وانت تلوذبشمائل
الخيل كالامة السوداء والنعجة القوداء، اما انه ان قتلني قتل
رجلا كريم المخبرة، حميد المقدرة، ليس بالحبس‏المنكوس،
ولا الثلب((756)) المركوس((757)). فقال عمرو: دع كيت
وكيت، فقد وقعت بين لحيي لهذم((758)) فروس‏للاعداء،
يسعطك اسعاط((759)) الكودن((760)) الملجم.
قال عبد اللّه: اكثر اكثارك، فاني اعلمك بطرا في الرخاء، جبانا
في اللقاء، عيابة عند كفاح الاعداء، ترى ان تقي مهجتك
بان‏تبدي سواتك، انسيت صفين وانت تدعى الى النزال؟ فتحيد
عن القتال، خوفا ان يغمرك رجال لهم ابدان شداد،
واسنة‏حداد، ينهبون السرح، ويذلون العزيز. فقال عمرو: لقد
علم معاوية اني شهدت تلك المواطن، فكنت فيها كمدرة
الشوك،ولقد رايت اباك في بعض تلك المواطن تخفق احشاؤه،
وتنق امعاؤه. قال: اما واللّه لو لقيك ابي في ذلك المقام،
لارتعدت منه‏فرائصك، ولم تسلم منه مهجتك، ولكنه قاتل
غيرك، فقتل دونك. فقال معاوية: الا تسكت؟! لا ام لك. فقال:
يا ابن هنداتقول لي هذا؟ واللّه لئن شئت لاعرقن جبينك،
ولاقيمنك وبين عينيك وسم يلين له خدعاك، اباكثر من
الموت تخوفني؟فقال معاوية: اوتكف يا ابن اخي؟ وامر باطلاق
عبد اللّه، فقال عمرو لمعاوية:
امرتك امرا حازما فعصيتني
وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
اليس ابوه يا معاوية‏الذي
اعان عليا يوم حز الغلاصم((761))
فلم ينثني حتى جرت من دمائنا
بصفين امثال البحور الخضارم((762))
وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه((763))
ويوشك ان تقرع به سن نادم
فقال عبد اللّه يجيبه:
معاوي ان المرء عمرا ابت له
ضغينة صدر غشها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند وانما
يرى ما يرى عمرو ملوك الاعاجم
على انهم لا يقتلون اسيرهم
اذا كان منه بيعة للمسالم
وقد كان منا يوم صفين نقرة
عليك جناها هاشم وابن هاشم
قضى ما انقضى‏منها وليس‏الذي مضى
ولا ماجرى الا كاضغاث حالم
فان تعف عني تعف عن ذي قرابة
وان تر قتلي تستحل محارمي
فقال معاوية:
ارى العفو عن عليا قريش وسيلة
الى اللّه في اليوم العصيب القماطر((764))
ولست ارى قتل العداة ابن هاشم
بادراك ثاري في لؤي وعامر
بل العفو عنه بعدما بان جرمه
وزلت به احدى الجدود العواثر
فكان ابوه يوم صفين جمرة‏علينا فاردته رماح
النهابر((765))
كتاب صفين لابن مزاحم((766))(ص‏182)، كامل
المبرد((767))(1/181)، مروج الذهب((768))(2/57 59)،
شرح ابن‏ابي الحديد((769))(2/176).
درس دين واخلاق
لعل الباحث لا يخفى عليه ان كل سواة وعورة ذكر بها المترجم
له في التاريخ الصحيح، وما يعزى اليه وعرف به من‏المساوئ
في طيات تلكم الكلمات الصادقة المذكورة، من الوضاعة،
والغواية، والغدر، والمكر، والحيلة، والخدعة، والخيانة،والفجور،
ونقض العهد، وكذب القول، وخلف الوعد، وقطع الال، والحقد،
والوقاحة، والحسد، والرياء، والشح، والبذاء،والسفه، والوغادة،
والجور، والظلم، والمراء، والدناءة، واللؤم، والملق، والجلافة،
والبخل، والطمع، واللدد، وعدم الغيرة على‏حليلته، الى غير
ذلك من المعاير النفسية واضداد مكارم الاخلاق، ليست هذه
كلها الا من علائم النفاق، ومن رشحات‏عدم الاسلام المستقر،
وانتفاء الايمان باللّه وبما جاء به النبي الاقدس، اذ الاسلام
الصحيح هو المصلح الوحيد للبشر،ومهذب النفس بمكارم
الاخلاق، ومجتمع الفضائل، واساس كل فضل وفضيلة، واصل
كل محمدة ومكرمة، وبه يتاتى‏الصلاح في النفوس مهما سرى
الايمان من عاصمة مملكة البدن القلب الى سائر الاعضاء
والجوارح واحتلهاواستقربها.
وذلك ان مثل الايمان في المملكة البدنى ة الجامعة لشتات
آحاد الجوارح والاعضاء كمثل دستور الحكومات في
الممالك‏الجامعة لافراد الاشخاص، فكما ان القوانين المقررة
في الحكومات والدول مبثوثة في الافراد، وكل فرد من
المجتمع له‏تكليف يخص به، وواجب يحق عليه ان يقوم به،
وحد محدود يجب عليه رعايته، وبصلاح الافراد وقيام كل فرد
منهم‏بواجبه يتم صلاح المجتمع، ويحصل التقدم والرقي في
الحكومات، كذلك الايمان في المملكة البدنية فانه قوانين
مبثوثة في‏الاعضاء والجوارح العاملة فيها، ولكل منها بنص الذكر
الحكيم تكليف يخص به، وحد معين في السنة يجب عليه
رعايته‏والتحفظ به، واخذ كل بما وجب عليه هو ايمانه وبه
يحصل صلاحه، فواجب القلب غير فريضة اللسان، وفريضته
غيرواجب الاذن، وواجبها غير ما كلف به البصر، وفرضه غير
واجب اليدين وواجبهما غير تكليف الرجلين وهكذا وهكذا،وان
السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا، وهذا البيان
يستفاد من قول النبي(ص) فيما اخرجه الحافظ ابن‏ماجة في
سننه((770))(1/35): ((الايمان معرفة بالقلب، وقول باللسان،
وعمل بالاركان))((771)).
وقوله(ص) : ((الايمان بضع وسبعون شعبة، فافضلها لا اله الا
اللّه، وادناها اماطة الاذى عن الطريق، والحياء شعبة
من‏الايمان))((772)).
ومن هنا يقبل الايمان ضعفا وقوة، وزيادة ونقصا، ويتصف
الانسان في آن واحد بطرفي السلب والايجاب
باعتبارين،فيثبت له الايمان من جهة وينفى عنه باخرى، ومن
هنا يعلم معنى قوله(ص): ((لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن، ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب
الخمر حين يشربها وهو مؤمن))((773)).
فلا يتاتى صلاح المملكة البدنية الا بالسلم العام وقيام جميع
اجزائها بواجبها، وامتثال كل فرد منها فيما فرض عليه،
ولايكمل الايمان الا بتحقق شعبه.