حديث زهده

  الغدير
حديث زهده

لا نحاول في البحث عن هذه النواحي، في اي من التراجم، سرد تاريخ امة غابرة، او ذكريات اماثل الامة او حثالتها في‏القرون الخالية فحسب، بل انما نخوض فيها بما فيها من عظات دينية، وفلسفة اخلاقية، وحكم عملية، ومعالم روحية،ومصالح اجتماعية، ودستور في مناهج السير الى المولى سبحانه، وبرنامج في اصلاح النفس، ودروس في التحلي بمكارم ‏الاخلاق، التي بعث لاتمامها نبي الاسلام.

وهناك نماذج من نفسيات شيعة العترة الطاهرة، وما لهم دون مناوئيهم من خلاق من المكارم والفضائل والقداسة‏والنزاهة، يحق بذلك كله ان يكون كل من نظراء قيس قدوة للبشر في السلوك الى المولى، وقادة للخلق في تهذيب النفس،ومؤدبا للامة بالخلائق الكريمة، ومصلحا للمجتمع بالنفسيات الراقية، والروحيات السليمة، فلن تجد فيهم (جرف منهال،ولا سحاب منجال) ((2-435)).

ففي وسع الباحث ان يستخرج من تاريخ تلكم النفوس القدسية، من قيس ومن يصافقه في المبدا الديني، ومن ترجمة من‏يضادهم في التشيع لال اللّه، من عمرو ابن العاص ومن يشاكله، حقيقة راهنة دينية، اثمن واغلى من معرفة حقائق ‏الرجال، والوقوف على تاريخ الاجيال الماضية، ويمكنه ان يقف بذلك على غاية كل من الحزبين العلوي والاموي مهمايكن القارئ شريف النفس، حرا في تفكيره، غير مقلد ولا امعة، مهما حداه التوفيق الى اتباع الحق، والحق احق ان يتبع،غير ناكب عن الطريقة المثلى في البخوع للحقائق، والجنوح اليها.

فخذ قيس بن سعد وعمرو بن العاص مثالا من الفريقين، وقس بينهما، وضع يدك على اي ماثرة تحاولها: من طهارة مولد،واسلام، وعقل، وحزم، وعفة، وحياء، وشمم، واباء، ومنعة، وبذخ، وصدق، ووفاء، ووقار، ورزانة، ومجد، ونجدة،وشجاعة، وكرم، وقداسة، وزهد، وسداد، ورشد، وعدل، وثبات في الدين، وورع عن محارم اللّه، الى مثر اخرى لاتحصى، تجد الاول منهما حامل عب‏ء كل منها، بحيث لو تجسم اي من تلكم الصفات ليكون هو مثاله وصورته. وهل ترى الثاني كذلك؟! اللهم لا. بل كل منها في ذاته محكوم بالسلب، اضف الى مخاز في المولد، والمحتد، والدين،والفروسية، والاخلاق، والنفسيات كلها، وسنلمسك كل هذه بيديك عن قريب ان شاء اللّه تعالى.

عندئذ يعرف المنقب نفسية كل من امامي الحزبين اذ الناس على دين ملوكهم‏ ، ويكون على بصيرة من امرهما، وحقيقة‏دعوة اي منهما، وتكون امثلتهما نصب عينيه، ان لم يتبع الهوى، ولا تضله تعمية من يروقه جهل الامة الاسلامية بالحقائق،بقوله في مقاتلي امير المؤمنين والخارجين عليه: انهم كانوا مجتهدين مخطئين ولهم اجر واحد، او بقوله: الصحابة كلهم‏عدول، وان فعل احدهم ما فعل، وجنت يداه ما جنت، وخرج عن طاعة الامام العادل، وسن لعنه، وسبه، وحاربه،وقاتله، وقتله.

فالناظر الى هذه التراجم بعين النصفة، اذا امعن فيها بما فيها من المغازي المذكورة، يعتقد بان ((2-436)) ((افضل عباد اللّه عنداللّه امام عادل هدي وهدى، فاقام سنة معلومة وامات بدعة مجهولة، وان السنن لنيرة لها اعلام، وان البدع لظاهرة لهااعلام، وان شر الناس عند اللّه امام جائر ضل واضل به، فامات سنة ماخوذة، واحيا بدعة متروكة)) وصدق بقول‏النبي‏الطاهر: ((يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدورالرحى، ثم‏يرتبط في قعرها)) ((2-437)).

لعل الباحث لا يمر على شي‏ء من خطب سى د الخزرج، وكتبه، وكلمه، ومحاضراته، الا ويجده طافحا بقداسة جانبه عن‏كل ما يلوث ويدنس من اتباع الهوى، وبزهادته عن حطام الدنيا، معربا عن ورعه عن محارم اللّه وخشونته في ذات ربه،وتعظيمه شعائر الدين، وقيامه بحق النبي الاعظم، ورعايته في اهل بيته وذويه بكل حول وطول، وبذل النفس والنفيس‏دون كلاءة دينه، واعلاء كلمة الحق، وارحاض معرة الباطل، واصلاح الفاسد، وكسر شوكة المعتدين، وبعد الياس عن‏صلاح امته، والعجز عن الدعوة الى الحق، لزم عقر داره بالمدينة المشرفة بقية حياته، واقبل على العبادة، حتى ادركه اجله‏المحتوم. كما ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب ((2-438)) (2/524).

واوفى كلمة في زهده وعبادته، ما قاله المسعودي في مروج الذهب ((2-439)) (2/63) قال: كان قيس بن سعد من الزهد،والديانة، والميل الى علي، بالموضع العظيم، وبلغ من خوفه للّه وطاعته اياه، انه كان يصلي، فلما اهوى للسجود، اذا في‏موضع سجوده ثعبان عظيم مطرق، فمال على الثعبان براسه، وسجد الى جانبه، فتطوق الثعبان برقبته، فلم يقصر من‏صلاته، ولا نقص منها شيئا حتى فرغ، ثم اخذ الثعبان فرمى به. كذلك ذكر الحسن بن علي بن عبداللّه بن المغيرة، عن‏معمر بن خلا د، عن ابي الحسن الامام علي بن موسى الرضا(ع). انتهى. والحديث الرضوي هذا رواه الكشي، باسناده عنه(ع) في رجاله ((2-440)) (ص‏63).

وكان ذلك الخشوع والاقبال الى اللّه في العبادة وافراغ القلب بكله الى الصلاة من وصايا والده الطاهر له، قال: يابني‏اوصيك بوصية فاحفظها، فاذا انت ضيعتها فانت لغيرها من الامر اضيع، اذا توضات فاتم الوضوء، ثم صل صلاة‏امرى‏ء مودع يرى انه لا يعود، واظهر الياس من الناس فانه غنى، واياك وطلب الحوائج اليهم، فانه فقر حاضر، واياك‏وكل‏شي‏ء تعتذر منه. تاريخ ابن عساكر ((2-441)) (6/90).

وكان من دعاء سيدنا المترجم، كما في الدرجات الرفيعة ((2-442))، وتاريخ الخطيب ((2-443)) وغيرهما قوله: الل هم ارزقني‏حمداومجدا ، فانه لا حمد الا بفعال، ولا مجد الا بمال. اللهم وسع علي، فان القليل لا يسعني ولا اسعه. وفي البداية والنهاية ((2-444)) (8/100): كان قيس يقول: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فانه لا تصلح الفعال الا بالمال.

ومعلوم ان طلب المال غير مناف للزهادة، فان حقيقة الزهد ان لا يملكك المال، لا ان لا تملك المال.