حديث فضله

  الغدير
حديث فضله

ان خطابات قيس، وكتاباته، ومحاضراته، ومقالاته، المبثوثة في طيات الكتب ومعاجم السير، شواهد صادقة على تضلعه‏في المعارف الالهية، واشواطه البعيدة في علمي الكتاب والسنة، وفي خدمته النبي الاعظم مدة عشر سنين ((2-445))، او مدة‏غير محدودة، وقد كان ابوه دفعه الى النبي(ص) ليخدمه، كما في اسد الغابة ((2-446)) (4/215) ومسامرته له(ص) سفراوحضراطول عمره، مع ما كان له من العقل، والحزم، والراي السديد، والشوق المؤكد الى تهذيب نفسه، والولع التام الى‏تكميل روحياته، لغنى وكفاية عن اي ثناء على علمه المتدفق، وفضله الكثار، وتقدمه في علمي الكتاب والسنة.

ومن الفضول ان نتعرض لاحصاء شواهد حسن تعليم النبي(ص) اياه، وانه كان يجيد تربيته، ويعلمه معالم دينه، ويفيض‏عليه من نمير فضله، ويلقنه بما يحتاج اليه الانسان الكامل من المعارف الدينية، وان ملازمته لصاحب الرسالة، وهو سيدالخزرج وابن سادتها لم تكن خدمة بسيطة، كما هو الشان في الخدم والاتباع من الناس، وانما هي كخدمة تلميذ لاستاذه‏للتعلم واخذ المعارف الدينية، والاقتباس من انوار علمه، ومما لا شك فيه ان النبي(ص) كان يعلمه معالم دينه في كل حال‏يجده، وكان قيس يغتنم الفرص ويظهر الشوق اليه، وينم عن ذلك ما رواه ابن الاثير في ‏اسد الغابة ((2-447)) (4/215) عن‏قيس، قال: مر بي النبي(ص) وقد صليت وقال: ((الا ادلك الى باب من ابواب الجنة؟)). قلت: نعم. قال: ((لا حول ولا قوة‏الا باللّه)).

وسماعه بعد وفاة النبي(ص) عن امير المؤمنين باب مدينة العلم النبوي، واخذه منه علمي الكتاب والسنة، كما قاله لمعاوية‏في حديث ياتي، لما جرت بينهما مناظرة، واحتج قيس عليه بكل آية نزلت في علي، وبكل حديث ورد في فضله، حتى‏قال معاوية: يا ابن سعد: عمن اخذت هذا، وعمن رويته؟ وعمن سمعته؟ ابوك اخبرك بذلك؟ وعنه اخذته؟ قال قيس: سمعته واخذته ممن هو خير من ابي، واعظم حقا من ابي. قال: من؟ قال: علي بن ابي طالب(ع) عالم هذه الامة‏وصديقها.

كل هذه ا ية محكمة، تدل على اطلاعه الغزير في المعالم الدينية، وبرهنة واضحة تثبت طول باعه في العلوم الالهية، ومثل‏قيس اذا كان اخذه، وسماعه، وروايته، عن مثل مولانا امير المؤمنين(ع) ينحسر البيان عن استكناه فضله، ويقصر التعريف‏عن درك مداه.

ومن شواهد غزارة علمه: اسلامه الراسخ، وايمانه المستقر، وعرفانه باولياء الامر بعد نبيه، وتهالكه في ولائهم، وتفانيه في‏نصرتهم الى آخر نفس لفظه، وعدم اكتراثه بلومة اي لائم. وكان هناك قوم حناق عليه، من اهل النفاق وحملة الحقدوالضغينة، يعيرونه بولاء العترة الطاهرة، وعدم ايثاره على دينه عوامل النهمة، وعدم تاثره ببواعث الفخفخة او دواعي‏الجشع، وعدم انتظاره منهم في دولتهم لرتبة ولا راتب، وعدم ارادته منهم على ولائه جزاء عاجلا ولا شكورا، ويشف‏عن‏ذلك ما وقع بينه وبين حسان بن ثابت، لما عزله امير المؤمنين عن ولاية مصر، ورجع الى المدينة، فانه حينما قدمها جاءه‏حسان شامتا به، وكان عثمانيا، فقال له: نزعك علي ابن ابي طالب، وقد قتلت عثمان فبقي عليك الاثم، ولم يحسن لك‏الشكر!. فزجره قيس وقال: يا اعمى القلب واعمى البصر! واللّه لولا ان القي بين رهط‏ي ورهطك حربا، لضربت عنقك،ثم‏اخرجه من عنده ((2-448)).

ولولا ان قيسا مستودع العلوم والمعارف، ومستقى معالم الدين، ومعقد جمان الفضيلة، كما كانت له الشهرة الطائلة في الدهاءوالحزم، لما ولا ه امير المؤمنين(ع) مصر لادارة شؤونها الدينية والمدنية، كما فوض اليه اقامة امورها السياسية والادارية‏والعسكرية، ولما كتب اليه بما مر (ص‏71) من كلامه(ع): ((وعلم من قبلك مما علمك اللّه)). فان عامل الخليفة هو مرجع‏تلكم الشؤون كلها في‏الوسط الذي استعمل به، وموئل امته في كل مشكلة دينية، كما ان له امامة الجمعة والجماعة، وماكان للخليفة من منتدح عن استعمال من له الكفاية لذلك كله.

قال الماوردي في الاحكام السلطانية ((2-449)) (ص‏24): اذا قلد الخليفة اميرا على اقليم او بلد، كانت امارته على ضربين:عامة وخاصة. فاما العامة على ضربين: امارة استكفاء بعقد عن اختيار، وامارة استيلاء بعقد عن اضطرار. فاما امارة الاستكفاء التي تنعقد عن اختياره، فتشتمل على عمل محدود، ونظر معهود، والتقليد فيها ان يفوض اليه‏الخليفة امارة بلد او اقليم، ولاية على جميع اهله، ونظرا في المعهود من سائر اعماله، فيصير عام النظر فيما كان محدودا من‏عمل، ومعهودا من نظر، فيشتمل نظره فيه على سبعة امور:

1 النظر في تدبير الجيوش، وترتيبهم في النواحي، وتقدير ارزاقهم، الا ان يكون الخليفة قدرها فيدرها عليهم.

2 النظر في الاحكام وتقليد القضاة والحكام.

3 جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتقليد العمال فيهما، وتفريق ما استحق منهما.

4 حماية ا لدين، والذب عن الحريم، ومراعاة الدين من تغيير او تبديل.

5 اقامة الحدود في حق اللّه، وحقوق الادميين.

6 الجمع والجماعات، حتى يؤم بها او يستخلف عليها.

7 تسيير الحجيج من عمله.

فان كان هذا الاقليم ثغرا متاخما للعدو اقترن بها ثامن، وهو: جهاد من يليه من الاعداء، وقسم غنائمهم في المقاتلة، واخذخمسها لاهل الخمس. وتعتبر في هذه الامارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض.

وقال في (ص‏20): يعتبر في تقليد وزارة التفويض شروط الامامة الا النسب. وذكر الشروط المعتبرة في الامامة (ص‏4)وقال: انها سبعة:

1 العدالة على شروطها الجامعة.

2 العلم المؤدي الى الاجتهاد في النوازل والاحكام.

3 سلامة الحواس من السمع، والبصر، واللسان.

4 سلامة الاعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة.

5 الراي المفضي الى سياسة الرعية وتدبير المصالح.

6 الشجاعة والنجدة المؤدية الى حماية البيضة وجهاد العدو.

7 النسب وهو ان يكون من قريش.

اذا عرفت معنى التقليد بالولاية على المسلمين ومغزاها، ووقفت على الامور الثمانية التي ينظر اليها كل امير بالاستكفاءبعقد عن اختيار، كامير الاسلام الكبير قيس بن سعد، واطلعت على ما يعتبر فيها من الشروط الستة المعتبرة في الامامة‏ووزارة التفويض، فحدث عن فضل قيس ولا حرج.

كلمتنا الاخيرة عن قيس:

انه من عمد الدين واركان المذهب.

لعلك بعد ما تلوناه عليك من فضائل المترجم له وفواضله، وعلومه ومعارفه، وحزمه وسداده، وصلاحه واصلاحه،وتهالكه في نصرة امامه الطاهر، واقامته علم الدين منذ عهد النبوة وعلى العهد العلوي الناصع، وثباته عند تخاذل الايدي‏وتدابر النفوس على العهد الحسني، ومصارحته بكلمة الحق في كل محتشد الى آخر حياته، وعدم انخداعه ببهرجة الباطل،وزبرجة الالحاد السفياني، وثراء معاوية الطائل الهاطل عليه لخدعه عن دينه، حينما بذل له الف الف درهم على ان يصيرمعه او ينصرف عنه كما مر (ص‏84)، انك لا تشك بعد ذلك كله، في ان قيسا من عمد الدين، واركان المذهب، وعظماءالامة، ودعاة الحق، فدون مقامه الباذخ ما في‏المعاجم والكتب من جمل الثناء عليه، مهما بالغوا فيها.

ولولا مثل قيس في آل سعد، لما قال رسول اللّه(ص) وهو رافع يديه: ((اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن‏عبادة)). وما كان يقول في غزوة ذي قرد ((2-450)): ((اللهم ارحم سعدا وآل سعد، نعم المرء سعد بن عبادة)). وما كان يقول‏لما اكل طعاما في منزل سعد: ((اكل طعامكم الابرار، وصلت عليكم الملائكة، وافطر عندكم الصائمون)). وما كان يقول‏لسعد وقيس، لما اتيا بزاملة تحمل زادا يوم ضلت زاملة النبي: ((بارك اللّه عليكما يا ابا ثابت ((2-451)) ابشر فقد افلحت، ان الاخلاف بيد اللّه فمن شاء ان يمنحه منها خلفا صالحا منحه،ولقد منحك اللّه خلفا صالحا)) ((2-452)).

فلينظر القارى‏ء في قيس بن سعد الى آثار رحمة اللّه، ومظاهر صلواته، ومجالي فضله، وما اثرت فيه تلك الدعوة النبوية،وما ظهر فيه وفي آله من بركاتها، وقد حفت به الصلوات والرحمة الالهية صلوات اللّه عليه ورحمته وبركاته.

ولقيس محاضرة ومناظرة مع الشيخين في قصة طوق خالد، ذكرها ابو محمد الديلمي الحسن بن ابي الحسن في ارشاد القلوب ((2-453)) (2/201)، افاضها بلسان ذلق، وايمان مستقر، وجنان ثابت، نضرب عنها صفحا، تحريا للايجاز.