القول الفصل

القول الفصل

هذا ما وسعنا من الحيطة ((1-1620)) باحاديث الباب واقواله في نزول الاية الكريمة حول قصة الغدير. وذكر المتوسعون في النقل وجوها اخر لنزولها، واول من عرفناه ممن ذكرهاالطبري في تفسيره((1-1621)) (6/198)، ثم تبعه من تاخر عنه، وانهاها الفخر الرازي ((1-1622)) الى‏تسعة اوجه، وعاشرها ما ذكرناه في هذا الكتاب.

اما ما ذكره الطبري: فعن ابن عباس: يعني ان كتمت اية مما انزل عليك من ربك لم تبلغ رسالتي. وهو غير مناف لنزولها في قصة الغدير، سواء اخذنا لفظة (اية) في قوله نكرة محضة، او نكرة مخصصة. فعلى الثاني يراد بها ما نحاول اثباته بمعونة ما ذكرناه من الاحاديث والنقول. وعلى الاول فهو تاكيد لانجاز ما امر بتبليغه بلفظ مطلق، ويكون حديث الغدير احد المصاديق المؤكدة. وعن قتادة: انه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وامره بالبلاغ. وهو ايضا غير مضاد لما نقوله، اذ ليس فيه غير ان اللّه سبحانه ضمن له العصمة والكفاية في تبليغ امر كان يحاذر فيه‏اختلاف امته ومناكرتهم ((1-1623)) له، ولا يمتنع ان يكون ذلك الامر هو نص الغدير، ويتعين ذلك بنص هذه الاحاديث.

وعن سعيد بن جبير، وعبداللّه بن شقيق، ومحمد بن كعب القرظ‏ي، وعائشة، واللفظ لها: كان النبي(ص) يحرس حتى نزلت هذه الاية (واللّه يعصمك من الناس) قالت: فاخرج النبي راسه من القبة فقال: «ايهاالناس انصرفوا، فان اللّه قد عصمني‏». وليس فيه الا انه(ص) فرق الحرس عنه بعد نزول الوعد بالعصمة من غير اي تعرض للامر الذي كان يخشى لاجله‏بادرة الناس في هذه القصة او مطلقا، وليس من الممتنع ان يكون ذلك مسالة يوم الغدير، وتعينه الروايات المذكورة في‏هذا الكتاب وغيره.

وذكر الطبري ايضا في سبب نزول الاية عن القرظ‏ي: انه كان النبي اذا نزل منزلا اختار له اصحابه شجرة ظليلة يقيل‏تحتها، فاتاه اعرابي، فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: «اللّه». فرعدت يد الاعرابي، وسقط السيف منها. قال: وضرب براسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فانزل اللّه (واللّه يعصمك من الناس). انتهى. وهو يناقض ما تقدم من انه(ص) كان يحتف به الحرس الى نزول الاية، فمن المستبعد جدا وصول الاعرابي اليه وهونائم، والسيف معلق عنده، والحرس حول قبة النبي. على ان لازم هذا التفريق في نزول الاية، فانه ينص على ان النازل‏بعد قصة الاعرابي هو قوله تعالى: (واللّه يعصمك من الناس)، ولا مسانخة بين هذه القصة وصدر الاية، ومن المستصعب‏البخوع لما تفرد به القرظ‏ي في مثل هذا.

وليس من المستحيل ان يكون قصة الاعرابي من ولائد الاتفاق ((1-1624)) حول نص الغدير ونزول الاية، فحسب السذج‏انها نزلت لاجلها، وفي الحقيقة لنزولها سبب عظيم هو امر الولاية الكبرى، ولم تك هاتيك الحادثة بمهمة تنزل لاجلهاالايات، وكم سبقت لها ضروب وامثال لم يحتفل بها، غير ان المقارنة بينها وبين نص الولاية على تقدير صحة الرواية آاوقعت البسطاء في الوهم.

وروى الطبري ((1-1625)) عن ابن جريج: ان النبي(ص) كان يهاب قريشا، فلما نزلت: (واللّه يعصمك من الناس) استلقى،ثم‏قال: «من شاء فليخذلني‏». مر تين او ثلاثا. واي وازع من ان يكون الامر الذي كان رسول اللّه(ص) يهاب قريشا لاجله هو نص الخلافة، كما فصلته الاحاديث‏الانفة؟ فليس هو بمضاد لما نقوله. وروى الطبري ((1-1626)) باربعة اسانيد عن عائشة: من زعم ان محمدا(ص) كتم شيئا من كتاب اللّه فقد اعظم على اللّهالفرية، واللّه يقول: (يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك). وما كانت عائشة بقولها في صدد بيان سبب النزول، وانما احتجت بالاية الكريمة على انه(ص) قد اغرق نزعا بالتبليغ، ولم يدع اية من الكتاب الا وبثها، وهذا ما لا يشك فيه، ونحن نقول به قبل هذه الاية وبعدها.

واما ما حشده الرازي في تفسيره ((1-1627)) (3/635) من الوجوه العشرة ((1-1628)) وجعل نص الغدير عاشرها، وقصة‏الاعرابي المذكور في تفسير الطبري ثامنها، وهيبة قريش مع زيادة اليهود والنصارى تاسعها، وقد عرفت حق القول‏فيهما فهي مراسيل‏مقطوعة عن الاسناد غير معلومة القائل، ولذا عزي جميعها في تفسير نظام الدين النيسابوري ((1-1629)) الى القيل، وجعل ما روي في نص الولاية اول الوجوه، واسنده الى ابن عباس والبراء بن عازب وابي سعيدالخدري ومحمد بن علي(ع).

والطبري الذي هو اقدم واعرف بهذه الشؤون اهملها راسا، وهو وان لم يذكر حديث الولاية ايضا لكنه افرد له كتابااخرجه فيه بنيف وسبعين طريقا، كما سبق ذكره وذكر من عزاه اليه في هذا الكتاب، وروى هناك نزول الاية عندئذ آباسناده عن زيد بن ارقم، والرازي نفسه لم يعتبر منها الا ما زاد على رواية الطبري في تاسع الوجوه من التهيب من‏اليهود والنصارى، وستقف على حقيقة الحال فيه.

فهي غير صالحة للاعتماد عليها، ولا ناهضة لمجابهة الاحاديث المعتبرة السابق ذكرها التي رواها من قدمنا ذكرهم من‏اعاظم العلماء كالطبري، وابن ابي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، وابي نعيم، وابي اسحاق الثعلبي، والواحدي،والسجستاني والحسكاني، والنطنزي، والرسعني وغيرهم باسانيد جمة، فما ظنك بحديث يعتبره هؤلاء الائمة؟ على ان اللائح على غير واحد من الوجوه [مع] لوائح الافتعال السائد عليها عدم التلاؤم بين سياق الاية وسبب‏النزول، فلا يعدو جميعها ان يكون تفسيرا بالراي، او استحسانا من غير حجة، او تكثيرا للغط امام حديث الولاية، فتافي عضده، وتخذيلا عن تصديقه، ويابى اللّه الا ان يتم نوره.

قال الرازي ((1-1630)) بعد عد الوجوه: اعلم ان هذه الروايات وان كثرت، الا ان الاولى حمله على انه تعالى امنه من مكر اليهود والنصارى وامره باظهار التبليغ‏من غير مبالاة منه بهم، وذلك لان ما قبل هذه الاية بكثير وما بعدها بكثير، لما كان كلاما مع اليهود والنصارى امتنع القاء هذه‏ الاية الواحدة في البين على وجه تكون اجنبية عما قبلها وما بعدها. انتهى .

وانت ترى ان ترجيحه لهذا الوجه مجرد استنباط منه بملاءمة سياق الايات من غير استناد الى اية رواية، ونحن اذاعلمنا ان ترتيب الايات في الذكر غير ترتيبها في النزول نوعا، فلا يهمنا مراعاة السياق تجاه النقل الصحيح، وتزيداخباتا الى ذلك بملاحظة ترتيب نزول السور المخالف لترتيبها في القران، والايات المكية في السورالمدنية وبالعكس،قال السيوط‏ي في الاتقان ((1-1631)) (1/24): فصل: الاجماع والنصوص المترادفة على ان ترتيب الايات توقيفي لا شبهة في ذلك، اما الاجماع فنقله غير واحدمنهم: الزركشي في البرهان ((1-1632)) ، وابو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الايات في سورها واقع ‏بتوقيفه(ص) وامره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. ثم ذكر نصوصا على ان النبي(ص) كان يلقن اصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القران على الترتيب الذي هو الان في‏مصاحفنا بتوقيف جبرئيل اياه على ذلك، واعلامه عند نزول كل اية: ان هذه الاية تكتب عقب اية كذا في سورة كذا.انتهى.

على ان طبع الحال يستدعي ان يكون تهيبه(ص) من اليهود والنصارى في اوليات البعثة، وعلى فرض التنازل بعد الهجرة‏بيسير، لا في اخريات ايامه التي كان يهدد فيها دول العالم، وتهابه الامم، وقد فتح خيبر، واستاصل شافة بني قريضة‏والنضير، وعنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب طوعا وكرها، وفيها كانت حجة الوداع التي نزلت فيها الاية، كما عرفت‏ذلك من الاحاديث السابقة، ويعلمنا القرطبي في تفسيره ((1-1633)) (6/30) بالاجماع على ان سورة المائدة مدنية ثم‏نقل‏عن النق اش نزولها في عام الحديبية سنة (6)، فاتبعه بالنقل عن ابن العربي: بان هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم‏اعتقاده…الى ان قال: ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح، وهو قوله تعالى: ( ولا يجرمنكم شنان قوم… ((1-1634)) ) الاية. وكل ما نزل بعد هجرة النبي(ص) فهو مدني، سواء نزل بالمدينة او في سفر من الاسفار، انما يرسم بالمكي ما نزل ‏قبل الهجرة.

وقال الخازن في تفسيره ((1-1635)) (1/448): سورة المائدة نزلت بالمدينة الا قوله تعالى: ( اليوم اكملت لكم دينكم ) فانهانزلت بعرفة في حجة الوداع. واخرجا القرطبي والخازن عن النبي(ص) قوله في حجة الوداع: ان سورة المائدة من اخر القران نزولا.

وقال السيوط‏ي في الاتقان ((1-1636)) (1/20): عن محمد بن كعب من طريق ابي عبيد: ان سورة المائدة نزلت في حجة‏الوداع فيما بين مكة والمدينة. وفي (1/11): عن فضائل القران لابن الضريس، عن محمد بن عبداللّه بن ابي‏جعفر الرازي، عن عمرو بن هارون، عن‏عثمان بن عطا الخراساني، عن ابيه، عن ابن عباس: ان اول ما انزل من القران: (اقرا باسم ربك) ثم ( ن ) ثم (يا ايها المزمل) الى ان عد الفتح، ثم المائدة، ثم البراءة، فجعل البراءة‏اخر سورة نزلت المائدة قبلها. وروى ابن كثير في تفسيره (2/2) عن عبداللّه بن عمر: ان اخر سورة انزلت سورة المائدة والفتح يعني سورة النصر آونقل من طريق احمد والحاكم والنسائي عن عائشة: ان المائدة اخر سورة نزلت.