وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر، فان يوم هتاف ابي ذر بمناويه
لم يكن العهد لابي بكر وعمر، وانما كان ذلك‏يوم عثمان
المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة، والمبائن للسيرة
النبوية في كل ما ذكرناه، ولذلك كله كان‏سلام اللّه عليه ساكتا
عن هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان: ويحك يا عثمان اما
رايت رسول اللّه (ص)ورايت ابابكر وعمر؟ هل رايت هذا هديهم؟
انك تبطش بي بطش جبار. ويقول: اتبع سنة صاحبيك لايكن
لاحد عليك كلام. راجع (ص‏298 و 306).
ولم يكن لابي ذر منتدح من ندائه والدعوة الى المعروف
الضائع، والنهي عن المنكر الشائع، وهو يتلو آناءالليل واطراف
النهار قوله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويامرون
بالمعروف وينهون عن‏المنكرواولئ ك هم المفلحون)
((1482)). قال ابن خراش: وجدت ابا ذر بالربذة في مظلة شعر
فقال: ما زال بي‏الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم
يترك الحق لي صديقا ((1483)).
وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتخذ شناشن الاكاسرة
والقياصرة بالترفه والتوسع والاستئثار بالاموال،وكان في العهد
النبوي صعلوكا لا مال له ووصفه به رسول اللّه (ص) ((1484))
وفي لفظ: ان معاوية ترب خفيف‏الحال ((1485)).
فما واجب ابي ذر عندئذ؟ وقد امره النبي الاعظم في حديث
((1486)) السبعة التي اوصاه بها، بان يقول الحق وان‏كان مرا،
وامره بان لا يخاف في اللّه لومة لائم. وما الذي يجديه قول
عثمان: مالك وذلك؟ لا ام لك؟ ولابي ذران يقول له كما قال:
واللّه ما وجدت لي عذرا الا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولم تكن لما رفع به ابو ذر عقيرته جدة ليس لها سلف من
العهد النبوي، فلم يهتف الا بما تعلمه من الكتاب‏والسنة، وقد
اخده من الصادع الكريم من فلق فيه، ولم يكن (ص) يسلب
ثروة احد من اصحابه وكان فيهم‏تجار وملاك ذوو يسار، ولم
ياخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الالهية، وعلى
حذوه حذا ابو ذر في‏الدعوة والتبليغ.
كان (ص) اخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به
من طرده من الحواضر الاسلامية: مكة،والمدينة، والشام،
والبصرة، والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وامره بالصبر وان
ما يصيبه في اللّه، فقال‏ابو ذر: مرحبا بامر اللّه. فصلاح ابي ذر
يمنعه عن الامر بخلاف السنة بما يخل نظام المجتمع، وكون
بلائه في اللّهيابى ان يكون ما جر اليه ذلك البلاء غير مشروع.
وان كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة اللّه
ورسوله لوجب عليه(ص) ان ينهاه عما سينوء به‏من الانكار وهو
يعلم ان تلك الدعوة تجر عليه الاذى والبلاء الفادح، وتشوه
سمعة خليفة المسلمين، وتسودصحيفة تاريخه، وتبقى وصمة
عليه مع الابد.
وما كانت الشريعة السمحاء تاتي بذلك الحكم الشاق الذي اتهم
به ابو ذر، ولم يكن قط يقصده وهو شبيه‏عيسى في امة محمد
(ص) زهدا ونسكا وبرا وهديا وصدقا وجدا وخلقا.
هكذا وصفه رسول اللّه (ص) غير ان عثمان قال لما غضب عليه:
اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب، اما ان‏اضربه او احبسه او
اقتله. وكذبه حين روى عن رسول اللّه (ص) حديث بني العاص،
عجبا هذا جزاء من‏نصح للّه ورسوله وبلغ عنهما صادقا؟ لاها اللّه
هذا ادب يخص بالخليفة. واعجب من هذا جواب عثمان‏لمولانا
امير المؤمنين لما دافع عن ابي ذر بقوله: «اشير عليك بما قال
مؤمن آل فرعون‏». اجابه بجواب غليظ‏اخفاه الواقدي وما احب
ان يذكره، ونحن وان وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزه
الكتاب عن ذكره.
وقد تجهم عثمان مرة اخرى امام امير المؤمنين (ع) بكلام فظ،
لما شيع هو وولداه السبطان ابا ذر في سبيله‏الى المنفى
ومروان يراقبه وقد مر تفصيله (ص‏294، 297) وفيه قوله لعلي
(ع): ما انت بافضل عندي من‏مروان.
ان من هوان الدنيا على اللّه ان يقع التفاضل بين علي ومروان
الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين، انا لا ادري‏هل كان الخليفة
في معزل عن النصوص النبوية في مروان؟ او لم يكن مروان
ونزعاته الفاسدة بمراى‏منه‏ومسمع؟ او القرابة والرحم بعثته الى
الاغضاء عنها، فراى ابن الحكم عدلا لمن طهره الجليل ورآه
نفس‏النبي الاعظم في الذكر الحكيم؟ كبرت كلمة تخرج من
افواهم...
(افحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من اللّه حكما لقوم
يوقنون) ((1487))

جناية التاريخ
ما اكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والاحساب الذين
تستفيد الامة من تاريخ حياتهم، وكرائم اخلاقهم،وآثار مثرهم،
ونفسياتهم الكاملة، ومعاقد اقوالهم وبوالغ عظاتهم، ودرر
حكمهم، وموارد اقدامهم‏واحجامهم!
تجد التاريخ هنا يسرع السير فينسي ذكرهم، ويغمط فضلهم، او
ياتي بمجمل من القول في صورة مصغرة، اويحور الكلام
ومزيجه الخبر المائن او رواية شائنة، كل ذلك تاييدا لمبدا،
واخذا بناصر نزعة، وسترا على‏اقوام آخرين تمس الحقيقة
الراهنة بهم وبكرامتهم، وتبعا لاهواء وشهوات من ساسة الوقت
او زعماءالزمن.
فمن هذه النواحي كلها اغفل التاريخ عن التبسط في حياة ابي
ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة‏بالعبقرية والكمال، التي
يجب ان تتخذ قدوة في السلوك والتهذيب، وان تكون للامة بها
اسوة وقدوة في‏التقوى والمبدا.

البلاذري
فتجد البلاذري يذكر حديث اخراج ابي ذر الى الربذة من عدة
طرق بصورة مرت في صفحة (294)ويروي قول ابي ذر
لحوشب الفزاري وابو ذر هو الذي ما اظلت الخضراء... الخ
اخرجت كارها. ثم عق‏به باكذوبة سعيد بن المسيب الذي كان
من مناوئي العترة الطاهرة وشيعتهم من انكار اخراج عثمان
اياه،وانه خرج اليها راغبا في سكناها.
ولا يعلم المغفل ان في ذلك تكذيبا لرسول اللّه (ص) فيما اخبر
ابا ذر بانه يخرج من المدينة كما مر (ص‏316)بطرق صحيحة.
وتكذيبا لمولانا امير المؤمنين (ع) حيث قال لعثمان بعد وفاة
ابي ذر في المنفى، وقد صمم‏عثمان ان يتبع ذلك بنفي عمار:
«يا عثمان اتق اللّه فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين
فهلك في تسييرك‏»((1488)). وتكذيبا لابي ذر في قوله الانف
فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح: ردني عثمان بعد
الهجرة‏اعرابيا.
وتكذيبا لعثمان الذي روى عنه البلاذري ايضا انه لما انهي اليه
نعي ابي ذر قال: رحمه اللّه. فقال عمار: نعم‏فرحمه اللّه من كل
انفسنا. فقال عثمان: يا عاض اير ابيه اتراني ندمت على تسييره؟
ياتي تمام الحديث في‏مواقف عمار.
وتكذيبا لما رواه البلاذري ايضا عن كميل بن زياد النخعي في
حديث اسلفنا (ص‏294) وتكذيبا،وتكذيبا.
ولا يعلم المسكين ان تلك الحادثة الفجيعة المتعلقة بعظيم
من عظماء الصحابة كابي ذر وقد كثر حوله الحواروالاخذ والرد
وتوفرت النقمة والنقد حتى عدت من عظائم الحوادث، وسار
بحديثها الركبان، وتذمر لهاالمؤمنون، وشمت فيها من شمت،
ونقم بها على الخليفة، وكان مما استتبعها ان ناسا من اهل
الكوفة قالوا لابي‏ذر وهو بالربذة: ان هذا الرجل فعل بك وفعل،
هل انت ناصب لنا راية؟ يعني نقاتله. فقال: لا، لو ان
عثمان‏سيرني من المشرق الى المغرب سمعت واطعت
. ((1489))
وقال ابن بطال كما في عمدة القاري للعيني ((1490))
(4/291): انما كتب معاوية يشكو ابا ذر لانه كان كثيرالاعتراض
عليه والمنازعة له، وكان في جيشه ميل الى ابي‏ذر، فاقدمه
عثمان خشية الفتنة لانه كان رجلا لايخاف في اللّه لومة لائم.
فما كنت يومئذ تمر بحاضرة من الحواضر الاسلامية الا وتجد
توغلا من اهلها في هذا الحديث، وتغلغلا بين‏ارجائها من جراء
ذلك الحادث الجلل.
ان حادثة كمثلها لا تستر بانكار مثل ابن المسيب المنبعث عن
الولاء الاموي لكنه شاء ان يقول فقال،ذاهلا عن انه لا يقبل منه
ذو مسكة ان يترك مثل ابي ذر دار هجرته ومهجر شرفه
ويعرض عن جوار نبيه‏ويختار الربذة منزلا له ولاهله مع جدبها
وقفرها، ولو كانت له خيرة في الامر، فما تلك المدامع الجارية
من‏لوعة المصاب وغصة الاكتئاب؟ وما تلكم النفثات الملفوظة
منه ومن مشيعيه في ذلك الوادي الوعر لما حان‏التوديع وآن
الفرقان بين الاحبة؟
ومن امانة البلاذري في النقل انه عند سرد قصة ابي ذر
ومشايعة مولانا امير المؤمنين له قال: جرى بين‏علي وعثمان
في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لان فيه نيلا من صاحبه.

ابن جرير الطبري
وانك تجد الطبري في التاريخ ((1491)) لما بلغ الى تاريخ ابي
ذر يقول: في هذه السنة اعني سنة 30 كان ما ذكرمن امر
ابي ذر ومعاوية واشخاص معاوية اياه من الشام الى المدينة، وقد
ذكر في سبب اشخاصه اياه منهااليها امور كثيرة كرهت ذكر
اكثرها، فاما العاذرون معاوية في ذلك فانهم ذكروا في ذلك
قصة. انتهى.
لماذا ترك الطبري تلكم الامور الكثيرة ولم يذكر منها الا قصة
العاذرين التي افتعلوها معذرة لمعاوية‏وتبريرالعمل الخليفة؟
واما الحقائق الراهنة التي كانت تمس كرامة الرجلين، وكانت
حديث امة محمد وقتئذوهلم جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا
الحاضر فكره ايرادها، وحسب انها تبقى مستورة ان لم يلهج هو
بها،وقد ذهب عليه ان في فجوات الدهر، وثنايا التاريخ، وغضون
كتب الحديث منها بقايا كافية لمن تروقه‏نفسيات مناوئي ابي
ذر، وتحقق اعلام النبوة التي جاء بها النبي الاعظم في قصة ابي
ذر من المغيبات.
ثم ذكر القصة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصح شي‏ء منها، وكل
جملة منها يكذبه التاريخ الصحيح او الحديث‏المتسالم على
صحته، وكفاها وهنا ما في سندها من الغمز واليك رجاله:
1 السري. مر الكلام فيه في هذا الجزء (ص‏140) وانه مشترك
بين اثنين عرفا بالكذب والوضع.
2 شعيب بن ابراهيم الاسيدي الكوفي. اسلفنا صفحة (140)
من هذا الجزء قول الحافظين ابن‏عدي‏والذهبي فيه وان ه
مجهول لا يعرف.
3 سيف بن عمر التميمي الكوفي. ذكرنا في صفحة (84) من
هذا الجزء اقوال الحفاظ وائمة الجرح والتعديل‏حول الرجل وانه
ضعيف، متروك، ساقط، وضاع، عامة‏حديثه‏منكر،
يروي‏الموضوعات عن‏الاثبات، كان‏يضع‏الحديث، واتهم‏بالزندقة.
اضف الى المصادر السابقة: الاستيعاب ((1492)) ترجمة
القعقاع (2/535)، الاصابة (3/239)، مجمع الزوائدللهيثمي
(10/21).
4 عطية بن سعد العوفي الكوفي، للقوم فيه آراء متضاربة بين
توثيق وتضعيف وقال الساجي: ليس بحجة‏وكان يقدم عليا على
الكل. وقال ابن سعد ((1493)): كتب الحجاج الى محمد بن
القاسم ان يعرضه على سب‏علي‏فان لم يفعل فاضربه اربعمائة
سوط واحلق لحيته، فاستدعاه فابى ان يسب فامضى حكم
الحجاج فيه((1494)). وذكر ابن كثير في تفسيره (1/501) عن
صحيح الترمذي ((1495)) من طريق عطية في علي مرفوعا:
«لا يحل‏لاحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك‏». فقال:
ضعيف لا يثبت فان سالما متروك وشيخه عطية ضعيف.انتهى.
وكون الرجل في الاسناد آية كذب الرواية، اذ الشيعي الجلد
كالعوفي لا يروي حديث الخرافة.
5 يزيد الفقعسي: لا اعرفه ولا اجد له ذكرا في كتب التراجم.
فانظر الى امانة الطبري على ودائع التاريخ، فانه يصفح عن
ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه‏المكاتبة
المكذوبة المفتعلة، حيا اللّه الامانة!

نظرة قيمة في تاريخ الطبري
شوه الطبري تاريخه بمكاتبات السري الكذاب الوضاع، عن
شعيب المجهول الذي لا يعرف، عن سيف‏الوضاع، المتروك،
الساقط، المتهم بالزندقة، وقد جاءت في صفحاته بهذا الاسناد
المشوه (701) رواية‏وضعت للتمويه على الحقائق الراهنة في
الحوادث الواقعة من سنة 11 الى 37 عهد الخلفاء الثلاثة
فحسب،ولا يوجد شي‏ء من هذا الطريق الوعر في اجزاء الكتاب
كلها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة،وانما بدا برواية
تلكم الموضوعات من عام وفاة النبي الاقدس، وبثها في الجزء
الثالث والرابع والخامس،وانتهت بانتهاء خامس الاجزاء.
ذكر في الجز الثالث من (ص‏210) في حوادث سنة (11)67
حديثا.
اخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة‏الثانية عشرة‏427حديثا.
اورد في الجزء الخامس فى حوادث السنة ال (23 37)207
حديثا.
المجموع‏701
ومما يهم لفت النظر اليه ان الطبري من صفحة (210) من
الجزء الثالث الى ((1496)) (ص‏241) يروي عن السري بقوله:

حدثني، المعرب عن السماع منه، ومن ((1497)) (ص‏241)
يقول: كتب الي السري ، الى آخر ما يروي عنه، الا حديثا واحدا
في الجزء الرابع ((1498)) (ص‏82) يقول فيه: حدثنا.
ولست ادري ان السري، وسيف بن عمر هل كان علمهما
بالتاريخ مقصورا على حوادث تلكم الاعوام‏المحدودة فقط؟
ومن حوادثها على ما يرجع الى المذهب فحسب لا مطلقا؟ او
كانت موضوعاتهما تنحصربالحوادث الخاصة المذهبية الواقعة
في الايام الخالية من السنين المعلومة؟ لكونها الحجر الاساسي
في المبادئ‏والاراء والمعتقدات، وقد ارادوا خلط التاريخ
الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلفا الى
اناس،واختذالا عن آخرين، ومن امعن النظر في هذه الروايات
يجدها نسيج يد واحدة، ووليد نفس واحد، ولااحسب ان هذه
كلها تخفى على مثل الطبري، غير ان الحب يعمي ويصم.
وقد سودت هاتيك المخاريق المختلقة صحائف تاريخ ابن
عساكر، وكامل ابن الاثير، وبداية ابن كثير، وتاريخ‏ابن خلدون،
وتاريخ ابي الفداء الى كتب اناس آخرين اقتفوا اثر الطبري على
العمى، وحسبوا ان ما لفقه هوفي التاريخ اصل متبع لاغمز فيه،
مع ان علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف اي حديث يوجد فيه
احد من‏رجال هذا السند فكيف اذا اجتمعوا في اسناد رواية.
والتليف المتاخرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد
الاهواء والشهوات كلها متخذة من هذه‏السفاسف التي عرفت
حالها وسنوقفك على نماذج منها في الجزء التاسع ان شاء اللّه
تعالى.

ابن الاثير الجزري
وانت ترى ابن الاثير في الكامل الناقص تبعا للطبري في
الذكر والاهمال كما هو كذلك في كل ما توافقاعليه من
التاريخ، لكنه زاد ضغثا على ابالة ((1499)) فقال ((1500)):
وفي هذه السنة كان ما ذكر في امر ابي ذرواشخاص معاوية اياه
من الشام الى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك امورا كثيرة من
سب معاوية اياه‏وتهديده بالقتل وحمله الى المدينة من الشام
بغير وطاء، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح
النقل‏به، ولو صح لكان ينبغي ان يعتذر عن عثمان، فان للامام
ان يؤدب رعيته، وغير ذلك من الاعذار، لا ان‏يجعل ذلك
سبباللطعن عليه كرهت ذكرها. انتهى.
ان الذي لم يصحح الرجل نقله صححه آخرون فنقلوه قبله
وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه، وكان قد حسب‏ان الحقائق
الثابتة تخفى عن اعين الناس ان سترها هو بذيل امانته، وقد
ذهب عليه ان اهل النصفة من‏المؤلفين ورواد الحقائق من
الرواة سوف لا يدعون صغيرة ولا كبيرة الا ويحصونها على
الامة، وان مدونة‏التاريخ ليست قصرا على كتابه.
هب انه ستر التاريخ بالاهمال لكنه ماذا يصنع بالمحدثين الذين
اثبتوا حديث اخراجه من المدينة وطرده عن‏مكة والشام في
باب الفتن وفي باب اعلام النبوة ((1501))؟ اولا يبهظ ذلك ابا
ذر وزملاءه من رجالات اهل‏البيت: ومن يرى رايه من صلحاء
الامة، ولا سيما ان سابقة الطرد من عاصمة النبوة لم تكن الا
لمثل الحكم آعم الخليفة وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد
تنزيها للعاصمة عن معرتهم، وتطهيرا لها عن لوث بقائهم‏فيها،
افهل يساوى ابو ذر ذلك العظيم عند اللّه ورسوله شبيه عيسى
بن مريم في امة محمد (ص) الذي مااظلت الخضراء ولا اقلت
الغبراء ذا لهجة اصدق منه، وقد امر اللّه سبحانه رسوله بحبه،
وهو من الثلاثة‏الذين تشتاق اليهم الجنة، والثلاثة الذين يحبهم
اللّه تعالى. افهل يساوى من هو هذا بالطريد اللعين؟
فيشوه‏ذكره بهذه التسوية، ويشهر بين الملا موصوما بذلك،
ويمنع الناس عن التقرب اليه، وينادى عليه‏بذل‏الاستخفاف،
ويحرم الناس من علومه الجم ة التي هو وعاؤها، ولعمر الحق،
وشرف الاسلام، ومجدالانسانية، وقداسة ابي ذر، ان النشر
بالمناشير، والقرض بالمقاريض اهون على الديني الغيور من
بعض‏هاتيك الشنائع.
ثم ان تاديب الخليفة للرعية انما يقع على من فقد الاداب
الدينية وطوحت به طوائح الجهل الى مساقط‏الضعة. واما مثل
ابي ذر الذي اطراه رسول اللّه (ص) بما لم يطر به غيره، وقربه
وادناه وعلمه واذا غاب عنه‏تفقده، وشهد انه شبيه عيسى بن
مريم هديا وسمتا وخلقا وبرا وصدقا ونسكا وزهدا. فبماذا
يؤدب؟ لماذا؟واي تاديب هذا يراه النبي الاعظم بلاء في اللّه؟
ويامر ابا ذر بالصبر وهو يقول: مرحبا بامر اللّه. وبم ولم‏استحق
ابو ذر التاديب؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه،
ويراه مولانا امير المؤمنين غضبا للّهويقول له: «فارج من غضبت
له‏» ((1502)).
نعم، يجب ان يكون ابو ذر هو المؤدب للناس لما حمله من علم
النبوة واحكام الدين وحكمه، والنفسيات‏الكريمة، والملكات
الفاضلة التي تركته شبيها بعيسى بن مريم في امة محمد
(ص).
ما بال الخليفة يتحرى تاديب ابي ذر وهو هذا، ويبهظه تاديب
الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمرواللعب بالصلاة
المفروضة؟
ويبهظه تاديب عبيد اللّه بن عمر على قتل النفوس المحترمة.
ويبهظه تاديب مروان وهو يتهمه بالكتاب المزور عليه.
ويبهظه تاديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الاخنس وهو يقول
له: انا اكفيك علي بن ابي طالب. فاجابه‏الامام بقوله: «يابن
اللعين الابتر والشجرة التي لا اصل لها ولا فرع، انت تكفيني؟!
فواللّه ما اعز اللّه من انت‏ناصره‏» ((1503)) الخ.
ما بال الخليفة يطرد ابا ذر ويردفه بصلحاء آخرين، ويرى الامام
الطاهر امير المؤمنين‏احق بالنفي‏منهم((1504))ويؤوي طريد
رسول اللّه الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما؟
ما بال الخليفة يخول مروان مهمات المجتمع، ويلقي اليه
مقاليد الصالح العام؟ ولم يصخ الى قول صالح الامة‏مولانا امير
المؤمنين له: «اما رضيت من مروان ولا رضي منك الا بتحرفك
عن دينك وعن عقلك مثل جمل‏الضعينة يقاد حيث يسار به؟
واللّه ما مروان بذي راي في دينه ولا في نفسه، وايم اللّه اني
لاراه سيوردك‏ثم‏لايصدرك، وما انا بعائد بعد مقامي هذا
لمعاتبتك، اذهبت شرفك، وغلبت على امرك‏» ياتي تمام
الحديث في‏الجزء التاسع ان شاء اللّه تعالى.
ما بال الخليفة يعط‏ي مروان ازم ة اموره ويشذ عن السيرة
الصالحة حتى توبخه زوجته نائلة بنت الفرافصة؟وتقول: قد
اطعت مروان يقودك حيث شاء، قال: فما اصنع؟ قالت. تتقي اللّه
وتتبع سنة صاحبيك، فانك متى‏اطعت مروان قتلك، ومروان
ليس له عند الناس قدر ولاهيبة ولا محبة، وانما تركك الناس
لمكانه، فارسل‏الى علي فاستصلحه، فان له قرابة وهو لا يعصى
((1505)). ليت الخليفة كانت له اذن واعية تسمع من
بنت‏الفرافصة كلمتها الحكمية التي كانت فيها نجاته في
النشاتين.
كان من صالح الخليفة ان يدني اليه ابا ذر فيستفيد بعلمه
وخلقه ونسكه وامانته وثقته وتقواه وزهده لكنه لم‏يفعل، وماذا
كان يجديه لو فعل؟ وحوله الامويون وهو المتفاني في حبهم،
وهم لا يرون ذلك الراي السديدسديدا لانه على طرف النقيض
مما حملوه من النهمة والشره، واكتناز الذهب والفضة، والسير
مع الهوى‏والشهوات، وهم المسيطرون على راي الخليفة وابو
سفيان يقول: يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي‏يحلف به
ابو سفيان ما زلت ارجوها لكم ولتصيرن الى صبيانكم وراثة. او
يقول لعثمان: صارت اليك بعدتيم وعدي فادرها كالكرة
واجعل اوتادها بني امية فانما هو الملك ولا ادري ما جنة ولا
نار. راجع(ص‏278).
وعثمان وان زبره تلك الساعة، لكنه لم يعد رايه في بني امية
المتلاعبين بالدين لعبهم بالاكر، ولا ادري هل‏تهجس في
تاديب ابي سفيان على ذلك القول الالحادي الشائن كما
تهجس وفعل في ابي ذر البر التقي، ومن‏يماثله من الصلحاء
الاتقياء؟
لقد فات ابن الاثير كل هذا، فاعتذر عن الرجل بان الخليفة
يؤدب رعيته.

عماد الدين بن كثير
((1506)) (7/155) جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية
فبنى على اساس ما علاه من قبله في حذف ما كان‏هنالك من
هنات وزاد في الطنبور نغمات، قال: كان ابو ذر ينكر على من
يقتني مالا من الاغنياء ويمنع ان‏يدخر فوق القوت ويوجب ان
يتصدق بالفضل ويتاول قول اللّه سبحانه وتعالى: (والذين
يكنزون الذهب‏والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم
بعذاب اليم) ((1507)) فينهاه معاوية عن اشاعة ذلك فلا
يمتنع، فبعث‏يشكوه الى عثمان، فكتب عثمان الى ابي ذر ان
يقدم عليه المدينة فقدمها، فلامه عثمان على بعض ما صدر
منه‏واسترجعه فلم يرجع. فامره بالمقام بالربذة وهي شرقي
المدينة ويقال: انه سال عثمان ان يقيم بها، وقال:ان رسول
اللّه(ص) قال لي: اذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها. وقد بلغ البناء
سلعا، فاذن له عثمان بالمقام‏بالربذة، وامره ان يتعاهد المدينة
في بعض الاحيان حتى لا يرتد اعرابيا بعد هجرته، ففعل، فلم
يزل مقيما بهاحتى مات. انتهى.
وقال ((1508)) في (ص‏165) عند ذكر وفاته: جاء في فضله
احاديث كثيرة، من اشهرها ما رواه الاعمش عن‏ابي اليقظان
عثمان بن عمير، عن ابي حرب بن ابي الاسود، عن عبداللّه بن
عمرو ان رسول اللّه (ص) قال:«ما اظلت الخضراء ولااقلت الغبراء
اصدق لهجة من ابي ذر». وفيه ضعف. ثم لما مات رسول اللّه
(ص)ومات ابو بكر خرج الى الشام، فكان فيه حتى وقع بينه
وبين معاوية، فاستقدمه عثمان الى المدينة، ثم نزل‏الربذة،
فاقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده
سوى امراته واولاده، فبينما هم كذلك‏لا يقدرون على دفنه، اذ
قدم عبداللّه بن مسعود من العراق في جماعة من اصحابه،
فحضروا موته واوصاهم‏كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته
فولوا غسله ودفنه، وكان قد امر اهله ان يطبخوا لهم شاة من
غنمه‏لياكلوها بعد الموت، وقد ارسل عثمان بن عفان الى اهله
فضمهم مع اهله. انتهى.
هذا كل ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام، وفيه
مواقع للنظر:
1 اتهامه ابا ذر بانه كان ينكر اقتناء المال على الاغنياء... الخ.
هذه النظرية قديما ما عزوها الى الصحابي العظيم اختلاقا عليه
وزورا، وقد تحولت في الادوار الاخيرة‏بصورة مشوهة اخرى من
نسبة الاشتراكية اليه، وسنفصل القول عنها تفصيلا ان شاء اللّه
تعالى.
2 انه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعدما اوعز
الى ان عثمان امره بالمقام بالربذة، اماحديث الربذة فقد
اوقفناك آنفا على انه كان منفيا اليها، واخرج من مدينة الرسول
بصورة منكرة، ووقع‏هنالك ما وقع بين علي (ع) ومروان، وبينه
وبين عثمان، وبين عثمان وبين عمار، واعتراف عثمان
بتسييره،وتسجيل علي امير المؤمنين عليه ذلك، وسماع غير
واحد من ابي ذر الصادق نفسه حديثه، وان عثمان جعله‏اعرابيا
بعد الهجرة، وهو مقتضى اعلام النبوة في اخبار رسول اللّه (ص)
اياه بانه سوف يخرج من المدينة،ويطرد من مكة والشام، واما
خبر الشام فقد مر اخراجه اليها ولم يكن ذلك باختياره ايضا.
3 واما حديث بلوغ البناء سلعا فافك مفترى على ام ذر، وقد
جاء في مستدرك الحاكم ((1509)) (3/344)،وذكره البلاذري
كما مر في (ص‏293) ورآه سبب خروج ابي ذر الى الشام باذن
عثمان لا سبب خروجه الى‏الربذة كما في حديث الطبري.
على ان ابن كثير اخذه من الطبري في التاريخ، وجل ما عنده
انما هو ملخص ما فيه مع التصرف فيه على مايروقه، واسناد
الرواية في التاريخ رجاله بين كذاب وضاع وبين مجهول لا
يعرف الى ضعيف متهم بالزندقة‏كما اسلفناه في (ص‏84، 140،
141،327) وهم:
1 السري. 2 شعيب. 3 سيف. 4 عطية. 5 يزيد الفقعسي.
وحديث يكون في اسناده احد هؤلاء لا يعول عليه، وعلى فرض
اعتباره فانه لا يقاوم الصحاح المعارضة‏له الدالة على اخبار
رسول اللّه (ص) بانه يخرج ويطرد من مكة والمدينة والشام.
راجع (ص‏316 319)وهي معتضدة بما مر عن ابي ذر وعثمان
وغيرهما في تسيير عثمان اياه، اضف اليها الاعذار الباردة
الواردة عن‏اعلام القوم فى تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.
4 واما ما ذكره من امر عثمان ابا ذر ان يتعاهد المدينة حتى لا
يرتد اعرابيا فانه من جملة تلك الرواية‏المكذوبة التي تشتمل
على حديث سلع، وقد مر من طريق البلاذري باسناد صحيح
في (ص‏294) قول ابي‏ذر: ردني عثمان بعد الهجرة اعرابيا.
على انه لم يذكر احد ان ابا ذر قدم المدينة خلال ايام نفيه من
سنة ثلاثين‏الى وفاته سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلا
لامر عثمان بالتعاهد.
5 ما ذكره من انه جاء في فضله احاديث كثيرة من اشهرها...
الخ.
ان شنشنة الرجل في الفضائل انه اذا قدم لسرد تاريخ من يهواه
من الامويين ومن انضوى اليهم من روادالنهم جاء باشياء كثيرة
وسرد التافه الموضوع في صورة الصحاح من غير تعرض
لاسنادها او تعقيب‏لمضامينها، ولا يمل من تسطيرها وان
سودت اضابير من القراطيس، لكنه اذا وصلت النوبة الى ذكر
فضل‏احد من اهل البيت او شيعتهم وبطانتهم من عظماء الامة
وصلحائها كابي ذر تضيق عليه الارض برحبها،وتلكا وتلعثم
كان في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة، او انه كان في اذنه وقر
عن سماعها فلم تنه اليه، وان‏اضطرته الحالة الى ذكر شي‏ء منها
جاء به في صورة مصغرة، كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من
اشهرفضائل ابي ذر ضعيفا، وهو يعلم ان طريق هذا الاسناد
ليس منحصرا بما ذكره هو من طريق ابن عمروالذي اخرجه
ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وانما جاء من طريق
علي امير المؤمنين وابي ذر وابي‏الدرداء وجابر بن عبداللّه
وعبداللّه بن عمر وابي هريرة، وحسن الترمذي غير واحد من
طرقه في‏صحيحه ((1510)) (2/221).
واسناد احمد من طريق ابي الدرداء في مسنده ((1511))
(5/197) صحيح رجاله كلهم ثقات.
واسناد الحاكم من طريق ابي ذر صححه هو واقره الذهبي كما
في المستدرك ((1512)) (3/342).
واسناد الحاكم من طريق علي (ع) وابي ذر ايضا صححه هو
واقره الذهبي كما في المستدرك ((1513)) (4/480).
واما اسناد ما اخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو، فقال
الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع‏الصغير
((1514)): سنده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد
: رجال احمد وثقوا وفي بعضهم خلاف. ((1515))
وحسنه‏السيوط‏ي في الجامع الصغير ((1516)). فاين الضعف
المزعوم؟
ولا يهمنا التعرض لبقية ما رمى القول فيه على عواهنه، فانها
ماخوذة من الطبري مع عدم الاجادة في‏الاخذ، ولعله اراد
اصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عوارا على عواره وروايته
هي من جملة اساطيراوقفناك على وضعها (ص‏327).
والممعن في كتب المحدثين يعلم ان هذه الجنايات التي
اوعزنا الى بعضها لم تعد كتب الحديث، فتجدها تثبت‏ما من
حقه الحذف، وتحذف ما يجب ان يذكر، ونكل عرفان ذلك الى
سعة باعك ايها القارئ الكريم.
(لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد) ((1517))

نظرية ابي ذر في الاموال
وافى سيدنا ابو ذر كغيره من قرنائه المقتصين اثر الكتاب
والسنة يبغي صالح قومه ونجاح امته، يبغي بهم ان‏لا يتخلفوا
عنهما قيد ذرة، يريد ان ينفي عن الناس البخل الذميم، وان
تكون لضعفاء الامة لماظة من منائح‏الاغنياء، وان لا يمنعوا
حقوقهم التي افترضها اللّه لهم، وكان نكيره الشديد متوجها الى
مغتصبي اموال‏الفقراء، والى اهل الاثرة الذين كانت القناطير
المقنطرة من الذهب والفضة منضدة في دورهم،
وكانت‏سبائك التبر تقسم بكسرها بالفؤوس، من دون ان تخرج
منها الحقوق المفروضة من اخماس وزكوات، ومن‏غير اغاثة
للملهوفين الذين كان قوتهم السغب، وريهم الظما وراحتهم
النكد، وعند القوم اموال لهم متكدسة‏لا تنتفع بها العفاة، ولا
يستفيد من نمائها المجتمع، ولا يصرف شي‏ء منها في الصالح
العام، وقد شاء اللّهسبحانه للذهب والفضة ان تتداولهما الايدي،
ويتقلبا في وجوه الحرف والمهن والصنائع، فتنتجع العامة
بهما،فاربابهما بالارباح، والضعفاء بالاجور، والبلاد بالعمران،
والاراضي بالاحياء، والمعالم والمعارف بالدعاية‏والنشر، والملا
العلمي بالجوامع والكليات والكتب والصحف، والمضطرون
بحقوقهما الالهية [المخرجة،والجنود بالعتاد، والرواتب
والرواحل، وثغور الاسلام بالعدة والعدة] ((1518))
واستحكامات تقتضيها الظروف،حتى تكون الامة سعيدة بما
يتسنى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها، ولذلك
حرم المولى‏سبحانه اتخاذ الاواني من الذهب والفضة لئلا يبقيا
جامدين يعدوهما اعظم الفوائد واكثرها المرقومة
فيهماالمترقبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.
كان نكير سيدنا ابي ذر موجها الى امثال من ذكرناهم كمعاوية
الذي كان يرفع ابو ذر عقيرته على بابه‏كل‏يوم ويتلو قوله تعالى:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه
فبشرهم بعذاب اليم).وكان يرى الاموال تجبى اليه فيقول:
جاءت القطار تحمل النار.
وكمروان الذي كان احدى منائح عثمان له خمس افريقية وهو
خمسمائة الف دينار.
وكعبد الرحمن بن عوف، وقد خلف ذهبا قطع بالفؤوس حتى
مجلت ايدي الرجال منه، وترك اربع نسوة‏فاصاب كل امراة
ثمانون الفا، فتكون ثروته من هذا الذهب المكنوز فحسب ما مر
في صفحة(284).
وكزيد بن ثابت المخلف من الذهب والفضة غير الاموال
المكردسة والضياع العامرة ما كان يكسر عندتقسيمه بالفؤوس.
وكطلحة التارك بعده مائة بهار في كل بهار ثلاث قناطر ذهب
والبهار جلد ثور وهذه هي التي قال‏عثمان فيها: ويلي على
ابن الحضرمية يعني طلحة اعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا،
وهو يروم دمي يحرض‏على نفسي ((1519)) او طلحة التارك
مائة جمل ذهبا كما مر عن ابن الجوزي.
وامثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني، وهو يرى ان خليفة
الوقت ياتيه ابو موسى بكيلة ذهب وفضة‏فيقسمها بين نسائه
وبناته من دون اي اكتراث لمخالفة السنة الشريفة، وهو يعلم
الكمية المدخرة من النقودالتي نهبت يوم الدار: (زين للناس
حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من
الذهب‏والفضة‏والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع
الحياة الدنيا واللّه عنده حسن المب) ((1520)).
فما ظنك بالرجل الديني الواقف على كل هذه الكنوز من
كثب؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول اللّه(ص) من
المغيبات، ومما يشاهده من نفسيات القوم، ان تلكم الاموال
المكتنزة سوف يصرف اكثرها في‏الدعوة الى الباطل، وفي
تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الامام الطاهر والخارجين عليه
والمزحزحين حليلة‏المصطفى عن خدرها عن عقر داره (ص)،
وفي اجور الوضاعين للاحاديث في فضائل بني امية والوقيعة
في‏رجالات اهل البيت:، وفي محرفي الكلم عن مواضعه، وفي
منائح لاعني مولانا امير المؤمنين وقاتلي الصلحاءالابرياء من
موالي العترة الطاهرة، ويصرف شي‏ء كثير منها في الخمور
والفجور، الى غير ذلك من وجوه‏الشر.
ما ظنك بالرجل؟ وفي اذنه نداء الصادع الكريم: «اذا بلغ بنو ابي
العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال اللّه دولا،وعباد اللّه خولا، ودين
اللّه دغلا». ويرى بين عينيه آل ابي العاص بلغوا ثلاثين وجاؤوا
يلعبون بالملك‏تلاعب الصبيان بالاكر، وقد اتخذوا مال اللّه
دولا...
فهل تراه يخفق على ذلك كله، كانه لا يبصر ولا يسمع ولا
يعلم؟ او انه يدوخ العالم بعقيرته؟ ويلفت الانظارالى جهات
الحكمة ووجوه الفساد؟ عساه يكسح شيئا من الشر الحاضر،
ويسد عادية المعرة المقبلة، وان‏اسس هذا الدين الحنيف
الدعوة الى الحق والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، (ولتكن
منكم امة يدعون‏ال ى‏الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن
المنكر واولئك هم المفلحون) ((1521)).
لقد ناء ابو ذر بهذه المهمة الدينية وهو الذي لا تاخذه في اللّه
لومة لائم، وما كان يلهج الا بقوله تعالى:(والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب اليم)
ولم يشذ في تاويل الاية عمايقتضيه ظاهرها، لان مطمح نظره
كان هؤلاء الذين ذكرناهم ممن جمعوا من غير حله، وادخروا
على غيرحقه، ولم يؤدوا المفترض مما استباحوه من المال
واكتنزوه، ولذلك لم يوجه نكيره الى اناس آخرين من‏زملائه
ومعاصريه من اهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الانصاري
الذي كان يهب غير الحقوق‏الواجبة عليه آلافا مؤلفة، وقد
عرفت شطرا من يساره في الجزء الثاني (85 88).
وكابي سعيد الخدري الذي كان يقول: ما اعلم اهل بيت من
الانصار اكثر اموالا منا ((1522)).
وكعبد اللّه بن جعفر الطيار الذي دوخ الاجواء ذكر ثروته
وعطاياه وقد فصلها ابن عساكر في تاريخه((1523))(7/325
344) وغيره.
وعبداللّه بن مسعود الذي خلف تسعين الفا كما في صفة
الصفوة.
وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية
بمائة الف درهم، فقال له عبداللّه بن الزبير:بعت مكرمة قريش.
فقال حكيم: ذهبت المكارم الا التقوى يابن اخي، اني اشتريت
بها دارا في الجنة‏اشهدك اني قد جعلتها في سبيل اللّه. وحج
حكيم ومعه مائة بدنة قد اهداها وجللها الحبرة ((1524))،
ووقف مائة‏وصيف يوم عرفة في اعناقهم اطوقة الفضة قد نقش
في رؤوسها: عتقاء اللّه عز وجل عن حكيم. واعتقهم،واهدى الف
شاة ((1525)).
الى اناس آخرين لدة هؤلاء من اهل اليسار. فلم تسمع اذن الدنيا
ان ابا ذر وجه الى احد من هؤلاءالاثرياء لوما لانه كان يعلم بانهم
اقتنوها من طرقها المشروعة وادوا ما عليهم منها وزادوا،
وراعوا حقوق‏المروءة حق رعايتها، وما كان يبغي بالناس الا
هذه.
لماذا يرى ابو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول: يا
معاوية ان كانت هذه الدار من مال اللّه فهي‏الخيانة، وان كانت
من مالك فهذا الاسراف. فسكت معاوية. ويقول ابو ذر: واللّه لقد
حدثت اعمال مااعرفها، واللّه ما هي في كتاب اللّه ولا سنة نبيه،
واللّه اني لارى حقا يطفا، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب،واثرة
بغير تقى، وصالحا مستاثرا عليه ((1526)).
ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصصة
الظاهر والباطن كما في مروج الذهب((1527))(1/434) فلا
ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة، وليس ذلك الا
لما كان يراه من الفرق‏الواضح بين المالين والبناءين
وصاحبيهما.
واما وجوب انفاق المال الزائد على القوت كله الذي عزاه الى
سيدنا ابي ذر المختلقون فمن افائكهم‏المفتريات، لم يدعه ابو
ذر ولا دعا اليه، وكيف يكون ذلك وابو ذر يعي من شريعة الحق
وجوب الزكاة؟وهل يمكن ذلك الا بعد اليسار والوفر الزائد على
المؤن؟ واللّه سبحانه يقول: (خذ من اموالهم صدقة
تطهرهم‏وتزكيهم) ((1528)) وفي تنكير الصدقة و (من)
التبعيض دلالة على ان الماخوذ بعض المال لا كله.
على ان النصب الزكوية المضروبة في النقدين والانعام والغلات
كلها نصوص على ان الباقي من المال مباح‏لاربابه، ولابي ذر
نفسه في آداب الزكاة احاديث اخرجها البخاري ومسلم
وغيرهما من رجال الصحاح‏واحمد والبيهقي وغيرهم.
فلو كان يجب انفاق بعد اخراج الزكاة فما معنى التحديد
بالنصب والاخراج منها؟ وهذا معنى واضح لا يخفى‏على كل
مسلم، فضلا عن مثل ابي ذر الذي هو وعاء العلم والمحيط
بالسنة الشريفة.
ولو كانت على المكلف بقية من الواجب بعد الزكاة لم يؤدها فما
معنى الفلاح؟ الذي وصف اللّه تعالى به‏المؤمنين: (قد افلح
المؤمنون # الذين هم في صلاتهم خاشعون # والذين هم عن اللغو
معرضون # والذين‏هم‏للزك اة فاعلون) ((1529)).
وليت شعري ان كان من المفترض انفاق كل ما للانسان من
المال بعد المؤن فبماذا يحترف او يمتهن؟ وليس‏عنده فاضل
على المؤن. ابما ادخره لقوته؟ ام بما رجع عنه بخفي حنين؟
ومماذا يخرج الزكاة؟ فيسد بها خلة‏الضعفاء ويقتات هو في
مستقبله الذي هو اوان فاقته. امن المحتمل ان ابا ذر كان
يوجب ترك كل هذه ويريدان تكون الدنيا مشحونة بالعفاة
المتكففين؟ فلا يرى المتسول الا شحاذا مثله، ولا يجد العافي
منتجعالكشف‏كربته وتسديد اعوازه ان دامت الحالة على ما
يتقول به على ابي ذر سنة او دون سنة.
تاللّه لا يبغي ابو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحب
لهم الا الخير كله، ولا يريد هذا اي مصلح اوصالح في نفسه،
فضلا عن ابي ذر المعدود في علماء الصحابة ومصلحيهم
وصلحائهم.
نعم، غضب ابو ذر للّه كما قاله مولانا امير المؤمنين ((1530))
وغضب للمسلمين حيث راى فيئهم مدخرا عنهم تتمتع به

سماسرة النهمة والجشع.
يرى فيئهم في غيرهم متقسما
وايديهم من فيئهم صفرات
فكان كل ما انتابه من جراء هذا الاخذ والرد بعين اللّه وفي
سبيله كما عهد اليه رسول اللّه (ص) فقال: «انت‏رجل صالح
وسيصيبك بلاء بعدي‏». قال: في اللّه؟ قال: «في اللّه». قال: مرحبا
بامر اللّه. راجع (ص‏316) من‏هذا الجزء.
ثم ان ما شجر من الخلاف بين ابي ذر ومعاوية في قوله تعالى:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونهافي سبيل اللّه
فبشرهم بعذاب اليم). فخصه معاوية باهل الكتاب وعممه ابو
ذر عليهم وعلى المسلمين، كمااخرجه البخاري ومر بلفظه
(ص‏295) وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من
الافاكين على ابي ذر آظاهر ((1531)) في انه لا خلاف بينهما
فى المقدار المنفق من المال وانما هو في توجيه الخطاب،
فارتاى معاوية‏ان‏المخاطب به اهل الكتاب، وعلم ابو ذر من
مستقى الوحي ولحن الاية الكريمة ان ها تعم كل مكلف.
اذن‏فيجب اما ان يعزى هذا الشذوذ اليهما جميعا، او يبرآن عنه
جميعا، فافراد ابي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والاحن.
وايا ما كان، فالمراد انفاق البعض لا الكل، وان كان النظر القاصر
قد يجنح الى الاخير لاول وهلة. وليست‏هذه الاية بدعا من آيات
اخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون
اموالهم في سبيل‏اللّهكمثل حبة انبتت سبع سنابل) الاية،
البقرة: 261.
وقوله تعالى: (الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية
فلهم اجرهم عند ربهم) البقرة: 274.
وقوله تعالى (الذين ينفقون اموالهم في سبيل اللّه ثم لا يتبعون
ما انفقوا منا ولا اذى لهم اجرهم عند ربهم)،البقرة: 262.
وقوله تعالى: (ومثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضاة اللّه)
الاية، البقرة: 265.
على ان هذه الايات اصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع
المضاف فيها، لكن المعلوم بالضرورة من دين‏الاسلام انه نزلها
الى البعض، ولعل النكتة في الاتيان بالجمع المضاف فيها ان
الموصوفين بها بلغوا من نزاهة‏النفس وكرم الطباع وعلو الهمة
حدا لا يبالون معه لو توقفت الحالة على انفاق كل اموالهم. او
انهم حين‏يسمحون بانفاق البعض في سبيل اللّه تعالى يجعله
سبحانه في مكان انفاق الكل بفضل منه ويثيبهم على‏ذلك.
وبهذا يعلم السر في قوله تعالى: (ان الذين كفروا ينفقون
اموالهم ليصدوا عن سبيل اللّه)، الانفال: 36.وقوله تعالى
(والذين ينفقون اموالهم رئاء الناس) الاية، النساء: 38.
فليست هذه الايات في منتاى عن قوله تعالى: (لن تنالوا البر
حتى تنفقوا مما تحبون)، آل عمران:92.
وقوله تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما
رزقناهم سرا وعلانية)، ابراهيم: 31.
وقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما
رزقناهم ينفقون)، البقرة: 3.
وقوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)،
الانفال: 3.
وقوله تعالى: (والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، الحج:
35.
وقوله تعالى: (ويدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم
ينفقون)، السجدة:16.
وقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم)، البقرة:
254.
وقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم)،
البقرة: 267.
وقوله تعالى: (وانفقوا مما رزقناكم من قبل ان ياتي احدكم
الموت)، المنافقون: 10.
على ان غير واحد من تلكم الايات تومي الى الانفاق المندوب
كما نص عليه علماء التفسير وحفاظ‏الحديث، ومع ذلك لم
يدعها سبحانه على ما يتوهم منها من جمعها المضاف حتى
جعل لها حدا بقوله‏عزوجل : (ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك
ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)، الاسراء: 29.وقوله
تعالى: (والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك
قواما)، الفرقان:67.
اترى ان ابا ذر سلام اللّه عليه عزب عنه كل هذه الايات
الكريمة والاصول المسلمة؟ او كان له راي‏خاص في تاويلها
تجاه الحقائق الراهنة حتى جاء بعد لاي من عمر الدنيا رعرعة
تجشاهم الدهر فقاءهم‏وقفوا على تلكم الكنوز المخياة؟!
ولو كان لابي ذر ادنى شذوذ عن الطريقة المثلى في حكم
الهي، شذوذا يخل بنظام المجتمع ويقلق السلام‏والوئام، وتكثر
حوله القلاقل، وفيه اثارة العواطف والاخلال بالامن او التزحزح
عن مبادئ الاسلام،لكان مولانا امير المؤمنين (ع) اول من
يردعه ويحبسه عن قصده السيئ وابو ذر اطوع له من الظل
لذيه،لكنه (ع) بدلا عن ذلك يقول: «غضبت للّه فارج من غضبت
له‏». ويقول: «واللّه ما اردت تشييع ابي ذرالاللّه». ويقول لعثمان:
«اتق اللّه فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في
تسييرك‏». وامير المؤمنين من‏تعرفه بتنمره في ذات اللّه لا
تاخذه في اللّه لومة لائم، وهو مع الحق والحق معه في كل ما
يقول ويفعل.
وهل ترى ان رسول اللّه (ص) مع انه كان يعلم ان ابا ذر سوف
ينوء في اخرياته بدعوة باطلة كهذه طفق‏ينوه به، ويعرفه بين
الملا بصفات فاضلة تكبر مقامه، وتعظم مكانته عند الجامعة
((1532))، وتمكنه من القلوب‏الصالحة؟ ويقول عمر له(ص): يا
رسول اللّه فنعرف ذلك له؟ فيقول (ص): «نعم فاعرفوه له‏».
فيكون(ص)مؤيدا له على عيثه، ومؤسسا لباطله، ومعرفا
لضلاله، حاشا رسول العظمة من مثل ذلك.
(فمن اظلم ممن افترى على اللّه كذبا ليضل الناس بغير علم)
((1533))
(قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) ((1534))
(اذ تلقونه بالسنتكم وتقولون بافواهكم ما ليس لكم به علم)
((1535))
(ما لهم به من علم ولا لا بائهم) ((1536))
(ان يتبعون الا الظن وان هم الا يخرصون) ((1537))

ابو ذر والاشتراكية
لقد عرفت كل ما في كنانة الاولين من نبال مرشوقة الى العبد
الصالح شبيه عيسى في امة محمد (ص)،فهلم‏هاهنا الى
رجرجة الاخرين من مقل دة الدور الاخير الخابطين‏خبط
عشواء، الذين‏رموا اباذر واجله‏
بالاشتراكية‏تارة‏وبالشيوعية‏اخرى.
هل احاط علما هؤلاء الاغرار بمبادئ الشيوعية التعيسة، ومواد
الاشتراك الذي هو بمقربة من رديفته‏المبغوضة؟
وهل اتيح لهم عرفان مغازي ابي ذر المصلح العظيم فيما قال
ودعا اليه حتى طفقوا يوفقوا بين المبداين؟
لا احسب انهم عرفوا شيئا من تلكم المغازي، وانهم في ظني
الغالب بهم شيوعية خونة يديفون السم في‏الدسم، ويسرون
حسوا في ارتغاء ((1538))، اتخذوا ماقالوه بل تقولوه اكبر دعاية
الى تلكم المبادئ الهدامة‏لاسس المدنية والحضارة، المضادة
لناموس الطبيعة، فضلا عن حدود الاسلام، يجعل مثل ابي ذر
العظيم‏شيوعيا او اشتراكيا، وقد صافقه على ما هتف به ونقم
على من ناواه وآذاه من القوم جل الصحابة ان لم نقل‏كلهم
ممن يعبا به وبرايه، واستاؤوا لما نكب به من جراء ذلك الهتاف
وفي مقدمهم مولانا امير المؤمنين (ع)وابناه الامامان ان قاما
وان قعدا، وعمار الذي قال فيه رسول اللّه (ص): «ان عمارا مع
الحق والحق معه يدورعمار مع الحق اينما دار» ((1539)) الى
كثيرين وافقوا هؤلاء على النقمة والاستياء، فلم يكن ابو ذر شاذا
في رايه،ولا انهي الينا انه خالفه احد من الصحابة، فدونك
صحائف التاريخ وزبر الحديث.
نعم، خالفه الذين يريدون ان يخضموا مال اللّه خضمة الابل نبتة
الربيع، وكانوا يكنزون الذهب والفضة ولاينفقون منها ما يجب
عليهم انفاقه، ويحرمون الامة عن اعطياتهم وما ينمو منها،
ويريدون للضعفاء ان‏يرزخوا تحت نير الاضطهاد، ويرسفوا في
قيود الفاقة والضعة، خاضعين لهم مستعبدين، وللقوم من
اموالهم‏قصور مشيدة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، ياكلون
فيها مال اللّه اكلا لما، ويحبون احتكاره حباجما.
نعم، خالفه اولئك الذين عرفهم يزيد بن قيس الارحبي يوم
صفين بقوله من خطبة له: يحدث احدهم في‏مجلسه بذيت
((1532))، وياخذ مال اللّه، ويقول: لا اثم علي فيه، كانما وذيت
اعط‏ي تراثه من ابيه، كيف؟ انما هومال اللّه افاءه علينا باسيافنا
ورماحنا، قاتلوا عباد اللّه القوم الظالمين الحاكمين بغيرما انزل
اللّه ولا تاخذكم‏فيهم لومة لائم ، انهم ان يظهروا عليكم يفسدوا
عليكم دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتم وجربتم ((1541)).
فاي انسان يبلغه ان العظماء الذين نوهنا بذكرهم، وهم اهل
الفضائل والعلوم، اعتنقوا مبدا لا يروقه ان‏يقتص اثرهم؟ وهو لا
يعلم ان ذلك العزو المختلق تقولوه دعاية الى ضلالهم وترويجا
لباطلهم وسترا على‏عوارهم.
دع ذلك كله وهلم معي الى النظر في مبادئ الشيوعية والفرق
الاشتراكيين، ان القوم على تعدد فرقهم الى‏الاشتراكية
الديمقراطية، والاشتراكية الوطنية النازية، والشيوعية،
والماركسية اشتراكية راس المال آوبالرغم من تباينهم الكثير
في شتى النواحي لا يختلفون في مواد ثلاثة تجمع شملهم
المبدد بدد اللّه شملهم: