وان تاليفا هو هكذا لا يمثل في علومه ومعارفه الا نفسية مؤلفه
وانظاره، ولا يراه القارئ الا كرواية لا تقوم الا بقائلها.
خذ اليك في موضوع واحد كتابين هما مثالان لاكثر ما ارتاينا
في هذا البحث، الا وهما:
1 كتاب الامام علي، تاليف الاستاذ ابي نصر عمر.
2 كتاب الامام علي، تاليف الاستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.
فهما على وحدة الموضوع، والنزعة، والبيئة، والدراسة، والهوى
السائد، طالما اختلفا في‏الابحاث والنظريات، فهذا الاستاذابو
نصر اخذ آراء الخضري الاموية ومن يضاهيه فيها، وصبها في
بوتقة تاليفه، فجاء في كتابه بكل شنء شوهاء التقت‏بها حلقتا
البطان((124)).
واما الاستاذ عبد الفتاح فانه جد وثابر على جهود جبارة، واخذ
زبدة المخض من الحقائق الناصعة، غير انه ضيع اتعابه‏باهمال
المصادر، فلم يات كتابه الا كنظرية شخصية، ولو ازدان تاليفه
بذكرها في التعاليق، وارداف ذلك النقل الواضح بماارته من
الراي السديد، لكان ابلغ في تمثيل افكار الجامعة، والاعراب عن
نظريات الملا الديني، وان كان ما ثابره الان‏مشفوعا بشكر
جزيل.
(ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد
تثبيتا)((125))
(13) ابن الرومي
المتوفى (283)
يا هند لم اعشق ومثلي لايرى
عشق النساء ديانة وتحرجا
لكن حبي للوصي مخيم
في الصدر يسرح في‏الفؤاد تولجا
فهو السراج المستنير ومن به
سبب النجاة من العذاب لمن نجا
واذا تركت له المحبة لم اجد
يوم القيامة من ذنوبي مخرجا
قل لي ااترك مستقيم طريقه
جهلا واتبع الطريق الاعوجا
واراه كالتبر المصفى جوهرا
وارى سواه لناقديه مبهرجا
ومحله من كل فضل بين
عال محل الشمس او بدر الدجى
قال النبي له مقالا لم يكن
يوم الغدير لسامعيه ممجمجا((126))
من كنت مولاه فذا مولى له
مثلي واصبح بالفخار متوجا
وكذاك اذ منع البتول جماعة
خطبوا واكرمه بها اذ زوجا
وله عجائب يوم سار بجيشه
يبغي لقصر النهروان المخرجا
ردت عليه الشمس بعد غروبها
بيضاء تلمع وقدة وتاججا((127))
الشاعر
ابو الحسن علي بن عباس بن جريج((128)) مولى عبيداللّه بن
عيسى بن جعفر البغدادي، الشهير بابن‏الرومي. مفخرة
من‏مفاخر الشيعة، وعبقري من عباقرة الامة، وشعره الذهبي
الكثير الطافح برونق البلاغة قد اربى على سبائك
التبرحسناوبهاء ، وعلى كثر النجوم عددا ونورا. برع في المديح،
والهجاء، والوصف، والغزل من فنون الشعر، فقصر عن
مداه‏الطامحون، وشخصت اليه الابصار، فجل عن الند كما قصر
عن مزاياه العد.
وله في مودة ذوي القربى من آل الرسول صلوات اللّه عليه
وعليهم اشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم‏ودفاعه
عنهم من اظهر الحقائق الجلية، وقد عده ابن الصباغ المالكي
المتوفى (855) في فصوله المهمة((129))
(ص‏302)،والشبلنجي في نور الابصار((130)) (ص‏166) من
شعراء الامام الحسن العسكري صلوات اللّه عليه.
وكان مجموع شعره غير مرتب على الحروف، رواه عنه
المسيبي علي بن عبيداللّه بن المسيب، ومثقال غلام ابن
الرومي آفي مائة ورقة، ورواه عن مثقال ابوالحسن علي بن
العصب الملحي، وكتب احمد بن ابي قسر الكاتب من شعره مائة
ورقة،وخالد الكاتب كذلك، فرتبه الصولي على الحروف في
مائتي ورقة. جمع شعره ابو الطيب وراق بن عبدوس من
جميع‏النسخ فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها
نحو الف بيت.
وللخالديين ابي بكر محمد وابي عثمان سعيد كتاب في اخبار
شعر المترجم((131))، وانتخب ابن سينا ديوانه، وشرح
مشكلات‏شعره كما في كشف الظنون((132)) (1/498)،
وعن ابن سينا : ان مما كلفني استاذي في الادب حفظ ديوان
ابن الرومي، فحفظته مع عدة كتب في ستة ايام ونصف يوم.
ويروي بعض شعره: ابو الحسين علي بن جعفر الحمداني،
واسماعيل بن علي الخزاعي، وابو الحسن جحظة، الذي
مدحه‏ابن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه((133))(ص‏168).
تجد ذكره والثناء عليه في((134)) فهرست ابن النديم
(ص‏235)، تاريخ بغداد (12/23)، معجم الشعراء (ص‏289،
453)، امالي‏الشريف المرتضى (2/101)، مروج الذهب (2/495)،
العمدة لابن رشيق (1/56، 61، 91)، معالم العلماء لابن
شهرآشوب،وفيات الاعيان (1/385)، مرآة الجنان
لليافعي(2/198)، شذرات الذهب (2/188)، معاهد التنصيص
(1/38)، كشف‏الظنون (1/498)، روضات الجنات (ص‏473)،
نسمة السحر فيمن تشيع وشعر، دائرة المعارف
للبستاني(1/494)، دائرة‏المعارف الاسلامية (1/181)، الاعلام
للزركلي(2/675)، الشيعة وفنون‏الاسلام(ص‏105)،مجلة
الهدى‏العراقية‏الجزءالسادس(ص‏223 227).
وعني بجمع آثاره وكتابة اخباره وروايتها جمع منهم:
1 ابو العباس احمد بن محمد بن عبيداللّه بن عمار :
المتوفى(319)، قال ابن المسيب: لما مات ابن الرومي عمل
كتابا((135)) في‏تفضيله ومختار شعره، وجلس يمليه على
الناس، كما في فهرست ابن النديم((136)) (ص‏212) ومعجم
الادباء (1/227).
2 ابو عثمان الناجم. ترجمه في كتاب مقصور عليه.
3 ابو الحسن علي بن عباس النوبختي: المتوفى(327). جمع
اخباره في كتاب مفرد، كما في معجم
المرزباني((137))(ص‏295)ومعجم الادباء((138))(5/229).
وافرد من الكتاب المتاخرين الاستاذ عباس محمود العقاد
كتابا((139)) في ترجمته في (392) صفحة ونحن ناخذ منه ما
هوالمهم‏ملخ صا بلفظه. قال:
قد ادرك ابن الرومي في حياته ثمانية خلفاء، هم: الواثق،
المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي، المعتمد،
المعتضدالمتوفى بعد ابن الرومي.
اثنى عليه العميدي صاحب الابانة((140))، وابن رشيق صاحب
العمدة((141)) وقال: اكثر المولدين اختراعا وتوليدا فيما
يقول‏الحذاق: ابو تمام وابن الرومي. واطراه ابن سعيد المغربي
المتوفى(673) في كتابه: عنوان المرقصات
والمطربات((142)).
ويظهر ان ابا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من ادباء القرن
الرابع توسع في ترجمته، اما في كتابه حماسة المحدثين، او
في‏كتاب مقصور عليه. ولكن اخباره هذه ذهبت كلها ولم يبق
منها اثر الا متفرقات في الكتب، لا تغني في ترجمة وافية
ولاشبيهة بالوافية، فنحن ننقلها كما هي:
ولد يوم الاربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب (221)
ببغداد، في الموضع المعروف بالعقيقة((143)) ودرب
الختلية،في دار بازاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور((144)).
كان ابن الرومي مولى لعبداللّه بن عيسى، ولايشك انه رومي
الاصل، فانه يذكره ويؤكده في مواضع من ديوانه، واسم جده‏مع
هذا: جريج او جرجيس اسم يوناني لا شبهة فيه، فلا ينبغي
الالتفات الى من قال: انه سمي بابن الرومي لجماله في‏صباه.
وكان ابوه صديقا لبعض العلماء والادباء منهم: محمد بن حبيب
الراوية الضليع في اللغة والانساب، فكان الشاعر يختلف‏اليه
لهذه الصداقة، وكان محمد ابن حبيب يخصه لما يراه من ذكائه
وحدة ذهنه، وحدث الشاعر عنه فقال: انه كان اذا مر به‏شي‏ء
يستغربه ويستجيده يقول لي: يا ابا الحسن ضع هذا في
تامورك((145)).
وقد علمنا ان امه كانت فارسية من قوله: الفرس خؤولي والروم
اعمامي، وقوله: فلم يلدني ابو السواس ساسان. بعد ان‏رفع نسبه
الى يونان من جهة ابيه، وربما كانت امه من اصل فارسي، ولم
تكن فارسية قحا لابيها وامها وهذا هو الارجح‏ لان علمه
بالفارسية لم يكن علم رجل نشا في حجر ام تتكلم هذه اللغة،
ولا تحسن الكلام بغيرها، وماتت امه وهو كهل‏او مكتهل كما
يقول في رثائها:
اقول وقد قالوا اتبكي لفاقد
رضاعا واين الكهل من راضع الحلم
هي الام ياللناس جزعت فقدها
ومن يبك اما لم تذم قط لا يذم
وكانت امه تقية، صالحة، رحيمة، كما يؤخذ من ابياته في رثائها.
قال الاميني : امه حسنة بنت عبداللّه السجزي كما في معجم
المرزباني((146))، وسجز بلدة من بلاد الفرس من
ارباض‏خراسان، فهي فارسية قح.
اخوه وشقيقه محمد المكنى بابي جعفر، وهو اكبر من
المترجم، وتوفي قبله، وكان يتفجع بذكراه ورثاه، ومات اخوه
وهويعمل في خدمة عبيداللّه بن عبداللّه بن طاهر احد اركان
بيت بني طاهر، ويظهر من ديوان المترجم انه كان
اديباكاتباايضا.
ولم يبق لابن الرومي بعد موت اخيه احد يعول عليه من اهله او
من يحسبون في حكم اهله، الا اناس من مواليه
الهاشميين‏العباسيين، كانوا يبرونه حينا ويتناسونه احيانا، و
كان لعهد الهاشميين الطالبيين احفظ منه لعهد الهاشميين
العباسيين، كمايظهر مما يلي. اما ابن عمه الذي اشار اليه في
قوله:
لي ابن عم يجر الشر مجتهدا
الي قدما ولا يصلي له نارا
يجني فاصلى بما يجني فيخذلني
وكلما كان زندا كنت مسعارا
فلا ندري اهو ابن عم لح، او ابن عم كلالة؟ ومبلغ ما بينهما من
صلة المودة ظاهر من البيتين.
اولاده
رزق ابن الرومي ثلاثة ابناء وهم: هبة‏اللّه، ومحمد، وثالث لم
يذكر اسمه في ديوانه، ماتوا جميعا في طفولتهم، ورثاهم
بابلغ‏وافجع ما رثى به والد ابناءه، وقد سبق الموت الى اوسطهم
محمد، فرثاه بدالية مشهورة، يقول فيها:
توخى حمام الموت اوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد
على حين شمت الخير في لمحاته
وآنست من افعاله آية الرشد
ومنها في وصف مرضه:
لقد قل بين المهد واللحد لبثه
فلم ينس عهد المهد اذ ضم في اللحد
الح عليه النزف حتى احاله
الى صفرة الجادي((147)) عن حمرة الورد
وظل على الايدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند((148))
ويذكر فيها اخويه الاخرين:
محمد ما شي‏ء توهم سلوة
لقلبي الا زاد قلبي من الوجد
ارى اخويك الباقيين كليهما
يكونان للاحزان اورى من الزند
اذا لعبا في ملعب لك لذعا
فؤادي بمثل النار عن غير ما عمد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يهيجانها دوني واشقى بها وحدي
اما ابنه هبة اللّه فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في
رثائه:
ياحسرتا فارقتني فننا
غضا ولم يثمر لي الفنن
ابني انك والعزاء معا
بالامس لف عليكما كفن
وفي الديوان ابيات يرثي بها ابنا لم يذكر اسمه، وهي:
حماه الكرى هم سرى فتاوبا
فبات يراعي النجم حتى تصوبا
اعيني جودا لي فقد جدت للثرى
باكثر مما تمنعان واطيبا
بني الذي اهديته امس للثرى
فلله ما اقوى قناتي واصلبا
فان تمنعاني الدمع ارجع الى اسى
اذا فترت عنه الدموع تلهبا
وهي على الارجح رثاؤه لاصغر ابنائه الذي لم يذكر اسمه، ولا
ندري هل مات قبل اخيه او بعده، ولكن يخيل الينا من‏المقابلة
بين هذه المراثي ان الابيات البائية كانت آخر مارثى به ولدا،
لانها تنم عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقدالبنين، حتى
جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء الا الاسى الملتهب في
الضلوع، والا العجب من ان يكون قد عاش‏وصلبت قناته لكل
هذه الفجائع، وقد كان رثاؤه لابنه الاوسط صرخة الضربة
الاولى، ففيها ثورة لاعجة تحس من خلل‏الابيات، ثم حل الالم
المرير محل الالم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن
واستعبر، ثم كانت الخاتمة فهومستسلم‏يعجب للحزن كيف لم
يقض عليه، ويحس وقدة المصاب في نفسه ولا يحسه في
عينيه، ولقد غشيت غبرة الموت‏حياته كلها، وماتت زوجته بعد
موت ابنائه جميعا، فتمت بها مصائبه وكبر عليه الامر ... الخ.
تعليمه
ذلك كل ما استطعنا ان نجمعه من الاخبار النافعة عن نشاة
الشاعر واهله، ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين
ايديناعن ايام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم وتتلمذ له من
العلماء والرواة، فان هذه المصادر خلو مما يفيد في هذا المقام
الا ماجاء عرضا في الجزء السادس من الاغاني((149))، حيث
يروي ابن الرومي عن ابي العباس ثعلب، عن حماد بن المبارك،
عن‏الحسين بن الضحاك. وحيث يروي في موضع آخر عن
قتيبة، عن عمر السكوني بالكوفة، عن ابيه، عن الحسين
بن‏الضحاك، فيصح ان تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن استاذ،
لان ثعلبا ولد سنة مائتين، فهو اكبر من الشاعر باحدى
وعشرين سنة. اما قتيبة والمفهوم انه ابو رجاء قتيبة بن سعيد
بن جميل الثقفي المحدث العالم المشهور فجائز ان يكون
ممن‏املوا عليه وعلموه، لانه مات وابن الرومي يناهز العشرين.
وقد مر بنا انه كان يختلف الى محمد بن حبيب الراوية النسابة
الكبير، وسنرى هنا انه كان يرجع اليه في بعض مفرداته‏اللغوية،
فيذكر شرحها في ديوانه معتمدا عليه، قال بعد قوله:
واصدق المدح مدح ذي‏حسد
ملان من بغضة ومن شنف
قال لي محمد بن حبيب: الشنف ما ظهر من البغضة في
العينين، واشار اليه بعد بيت آخر وهو:
بانوا فبان جميل الصبر بعدهم
فللدموع من العينين عينان
اذ فسر كلمة (عينان)، فروى عن ابن حبيب انه قال: عان الماء
يعين عينا وعينانا اذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من اساتذة ابن‏الرومي
على هذا الاعتبار، ولاعلم لنا بغيرهم فيما راجعناه، وحسبنا مع
هذا ان الرجل كيفما كان تعليمه وايا كان معلموه‏ قد نشا
على نصيب واف من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث
منها بقسط وافر في شعره، فلو لم يقل المعري: انه‏كان يتعاط‏ى
الفلسفة، والمسعودي: ان الشعر كان اقل الاته لعلمنا ذلك من
شواهد شتى في كلامه، فهي هناك كثيرة‏متكررة‏لا يلم
المتصفح ببعضها الا جزم باطلاع قائلها على الفلسفة،
ومصاحبة اهلها، واشتغاله بها، حتى سرت في اسلوبه‏وتفكيره،
وما كان متعلم الفلسفة في تلك الايام يصنع اكثر من ذلك
ليتعلمها او ليعد من متعلميها، فانت لا تقرا لرجل غيرمشتغل او
ملم بالفلسفة والقياس المنطقي والنجوم كلاما كهذا الكلام:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
والا فما يبكيه منها وانها
لارحب مما كان فيه وارغد
وذكر((150)) شواهد كثيرة على المامه بالعلوم ومعرفته
بمصطلحاتها، غضضنا الطرف عنها اختصارا.
رسائل ابن الرومي
وقد وردت في ابياته الهمزية اشارة الى حذقه في الكتابة،
ومشاركته في البلاغة المنثورة، تعززها اشارة مثلها في
هذاالبيت:
الم تجدوني آل وهب لمدحكم
بشعري ونثري اخطلا ثم جاحظا
فلابد انه كان يكتب ويمارس الصناعة النثرية، الا ان ما
استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذا معدودة موجزة، منها:
1 رسالة الى القاسم بن عبيداللّه يقول فيها متنصلا:
ترفع عن ظلمي ان كنت بريئا، وتفضل بالعفو ان كنت مسيئا،
فواللّه اني لاطلب عفو ذنب لم اجنه، والتمس الاقالة مما
لااعرفه، لتزداد تطولا، وازداد تذللا، وانا اعيذ حالي عندك
بكرمك من واش يكيدها، واحرسها بوفائك من باغ
يحاول‏افسادها، واسال اللّه تعالى ان يجعل حظ‏ي منك بقدر
ودي لك، ومحلي من رجائك بحيث استحق منك. والسلام.
2 رسالة كتبها يعود صديقا:
اذن اللّه في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيدالعافية
عليك، ووجه وفد السلامة اليك، وجعل علتك ماحية
لذنوبك،مضاعفة لثوابك.
3 كتب الى صديق له قدم من سيراف((151))، فاهدى الى
جماعة من اخوانه ونسيه:
اطال اللّه بقاءك، وادام عزك وسعادتك، وجعلني فداءك، لولا
اني في حيرة من امري، وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي‏
علم اللّه فغالب، وظمئي فشديد، والى اللّه الرغبة في ان يجعل
القدرة على اللقاء حسب المحبة، انه قادر جواد.
ومكاننا من جميل رايك ايدك اللّه يبعثنا على تقاضي
حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك واخلاقك يشجعنا على
امضاءالعزم في ذلك، وما تطولت به من الايناس يؤنسنا بك،
ويبسطنا اليك، وآثار يديك تدلنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك،
واللّهيطيل بقاءك، ويديم لنا فيك وبك السعادة.
وبلغني ادام اللّه عزك ان سحابة من سحائب تفضلك امطرت
منذ ايام مطرا عم اخوانك، بهدايا مشتملة على حسن‏وطيب،
فانكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في
جملة من يعتدك، ويعتقدك، وينحوك، ويعتمدك، وسبق‏الى
قلبي من الم سوء الظن برايك اضعاف ماسبق اليه من الالم
بفوت الحظ من لطفك، فرايت مداواة قلبي من ظنه،
وقلبك‏من سهوه، واستبقاء الود بيننا بالعتاب الذي يقول فيه
القائل: ويبقى الود ما بقي العتاب، وفيما عاتبت كفاية عند من
له اذنك‏الواعية، وعينك الراعية.
4 وقال في تفضيل النرجس على الورد:
النرجس يشبه الاعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود،
والاعين والمضاحك اشرف من الخدود، وشبيه الاشرف
اشرف‏من شبيه الادنى، والورد صفة لانه لون، والنرجس
يضارعه في هذا الاسم، لان النرجس هو الريحان الوارد، اعني
انه‏ابدافي الماء، والورد خجل والنرجس مبتسم، وانظر ادناهما
شبها بالعيون فهو افضل.
هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين ايدينا، وخليق
بمن يكتب بهذا الاسلوب ان يعد في بلغاء الكتاب، وان لم‏يعد
في ابلغهم، على ان ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه الا مع
الشعراء اذا اختلفت الطوائف، فانه يقول عن نفسه وهويمدح ابا
الحسين كاتب ابن ابي الاصبع:
ونحن معاشر الشعراء ننمى
الى نسب من الكتاب دان
وان كانوا احق بكل فضل
وابلغ باللسان وبالبيان
ابونا عند نسبتنا ابوهم
عطارد السماوي المكان
اما حظه من علوم العربية والدين، فمن المفضول ان نتعرض
لاحصاء الشواهد عليه في كلامه، لانه ابين من ان
يحتاج‏الى‏تبيين. وندر في قصائده المطولة او الموجزة قصيدة
تقراها ولا تخرج منها وانت موقن باستبحار ناظمها في
اللغة،واحاطته الواسعة بغريب مفرداتها، واوزان اشتقاقها،
وتصريفها، وموقع امثالها، واسماء مشاهيرها، ومايصحب ذلك
من‏احكام في الدين، ومقتبسات من ادب القرآن، فليس في
شعر العربية من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة
والدقة‏غير شاعرين اثنين: احدهما صاحبنا والثاني المعري، وقد
كان يمدح الرؤساء والادباء امثال: عبيداللّه بن عبداللّه، وعلي
بن‏يحيى ، واسماعيل بن بلبل، فيفسر غريب كلماته في
القرطاس الذي يثبت فيه قصائده، كانه كان يشفق ان تفوتهم
دقائق‏لفظه واسرار لغته، ثم يعود الى الاعتذار من ذلك اذا انس
منهم الجفوة والتغير:
لم افسر غريبها لك لكن
لامرى يجهل الغريب سواكا
لغيرك لا لك التفسير انى
يفسر لابن بجدتها الغريب
وكانوا لشهرته باللغة، وعلم اسرارها، ولطيف نكاتها، يختلقون له
الكلمات النافرة، يسالونه عنها ليعبثوا به او يعجزوه،وقصة
الجرامض احدى هذه المعابثات التي تدل على غيرها من
قبيلها، فقد ساله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيداللّه:
ماالجرامض؟ فارتجل مجيبا:
وسالت عن خبر الجرا
مض طالبا علم الجرامض
وهو الخزاكل والغوا
مض قد تفسر بالغوامض
وهو السلجكل شئت ذ
لك ام ابيت بفرض فارض
وكلها كلمات من مادة الجرامض لا معنى لها ولا وجود.
واذا صح استقراؤنا، وكان من اساتذته امثال ثعلب وقتيبة فضلا
عن الاستاذية الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك‏علمه
بالغريب والانساب والاخبار، هؤلاء كلهم من نخبة النخبة في
هذه المطالب، ولا سيما اذا اعانهم تلميذ ذو فطنة‏متوقدة
الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مر بك انه كان
يحفظ الابيات الخمسة من قراءة واحدة، فهب في‏الرواية بعض
المبالغة التي تتعرض لها امثال هذه الروايات، فهو بعد سريع
الحفظ، وهذا مما يعينه على تحصيل اللغة‏وتعليق المفردات.
عاش ابن الرومي حياته كلها في بغداد، لا يفارقها قليلا حتى
يعود سريعا، وقد نازعه اليها الشوق وغلبه نحوها حنين،وكانت
بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع، و كان صاحب ضيعة
ومالك دارين وثراء وتحف موروثة، منها قدح زعم‏انه كان
للرشيد، ووصفه في شعره لما اهداه الى علي ابن المنجم
يحيى:
قدح كان للرشيد اصطفاه
خلف من ذكوره غير خلف
كفم الحب في الحلاوة بل احلى
وان كان لايناغي بحرف
صيغ من جوهر مصفى طباعا
لاعلاجا بكيمياء مصف
تنفذ العين فيه حتى تراها
اخطاته من رقة المستشف
كهواه بلا هباء مشوب
بضياء ارقق بذاك واصف
ثم استوعب الكلام في البحث عن مزاجه، واخلاقه، ومعيشته،
وما كانت تملكه يده، وذكرى مطايباته ومفاكهاته،
وهجائه‏وفشله وطيرته من (ص‏102) الى(ص‏203) فشرع في
بيان عقيدته وهناك مواقع للنظر وقال:
عقيدته
تقدم في الكلام عن الحالة الدينية في القرن الثالث للهجرة انه
كان عصرا كثرت فيه النحل والمذاهب، وقل فيه من‏لايرى‏في
العقائد رايا يفسر به اسلامه، وبخاصة بين جماعة الدارسين
وقراء العلوم الحديثة.
فابن الرومي واحد من هؤلاء القراء، لا ننتظر ان تمر به هذه
المباحث التي كان يدرسها، ويحضر مجالسها، ويسمع من‏اهلها،
بغير اثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلما صادق
الاسلام، ولكنه كان شيعيا معتزليا قدريا يقول
بالطبيعتين،وهي اسلم النحل التي كانت شائعة في عهده من
حيث الايمان بالدين.
وقد قال المعري في رسالة الغفران((152)): ان البغداديين
يدعون انه متشيع، ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية.
ثم عقب‏على ذلك فقال: ما اراه الا على مذهب غيره من
الشعراء.
ولا ندري لماذا شك المعري في تشيعه لانه على مذهب غيره
من الشعراء، فان الشعراء اذا تشيعوا كانوا شيعة حقا كغيرهم‏من
الناس، وربما افرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامة
المتشيعين، وانما نعتقد ان المعري لم يطلع على شعره
كله،فخفيت عنه حقيقة مذهبه، ولولا ذلك لما كان بهذه
الحقيقة من خفاء.
على ان القصيدة الجيمية وحدها كافيه في اظهار التشيع الذي
لا شك فيه، لان الشاعر نظمها بغير داع يدعوه الى نظمهامن
طمع او مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من
ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء، فقد رثى بها يحيى بن‏عمر بن
الحسين بن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه ابناء
طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العباس‏ويذكر ولاة
السوء من ابناء طاهر:
اجنوا بني العباس من شننكم‏واوكوا على ما في العياب
واشرجوا((153))
وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم
فاحرى بهم ان يغرقوا حيث لججوا
نظار لكم ان يرجع الحق راجع
الى اهله يوما فتشجوا كما شجوا
على حين لا عذرى لمعتذريكم‏ولا لكم من حجة اللّه
مخرج
فلا تلقحوا الان الضغائن بينكم
وبينهم ان اللواقح تنتج
غررتم لئن صدقتم ان حالة
تدوم لكم والدهر لونان اخرج((154))
لعل لهم في منطوى الغيب ثائرا
سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
فماذا يقول الشيعي لبني العباس اقسى واصرح في التربص
بدولتهم وانتظار دولة العلويين من هذا الكلام؟ فقد
انذربني‏العباس بزوال‏الملك وكاد يتمنى او تمنى لبني علي
يوما يهزمون فيه اعداءهم، ويرجعون فيه حقهم، ويطلبون
تراثهم،وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهر من العلويين لا
مداجاة فيه كهوى كل شيعي في هذا المقام.
على انه كان اظهر من هذا في النونية التي تمنى فيها هلاك
اعدائهم، ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:
ان يوالي الدهر اعداء لكم
فلهم فيه كمين قد كمن
خلعوا فيه عذار المعتدي
وغدوا بين اعتراض وارن((155))
فاصبروا يهلكهم اللّه لكم
مثل ما اهلك اذواء اليمن
قرب النصر فلا تستبطئوا
قرب النصر يقينا غير ظن
ومن التقصير صوني مهجتي
فعل من اضحى الى الدنيا ركن
لا دمي يسفك في نصرتكم
لا ولا عرضي فيكم يمتهن
غير اني باذل نفسي وان
حقن اللّه دمي فيما حقن
ليت اني غرض من دونكم
ذاك او درع يقيكم ومجن
اتلقى بجبيني من رمى
وبنحري وبصدري من طعن
ان مبتاع الرضا من ربه
فيكم بالنفس لا يخشى الغبن
وليس يجوز الشك في تشيع من يقول هذا القول ويشعر هذا
الشعور، فانه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبا لبني‏علي،
وغضبا لهم، واشهارا لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم، وقد
كان لا يذكر يحيى بن عمر الا بلقب الشهيد كما
ذكره‏في‏القصيدة الجيمية وفي خاطرة اخرى مفردة نظمها في
هذين البيتين:
كسته القنا حلة من دم
فاضحت لدى اللّه من ارجوان
جزته معانقة الدارع
ين معانقة القاصرات الحسان
وبعض هذا يكفي في الدلالة على تشيعه للطالبيين، واتخاذه
التشيع مذهبا في الخلافة كمذهب الشعراء او غير الشعراء،
ولاسيما التشيع المعتدل الذي يقول اهله بجواز امامة
المفضول مع وجود الافضل، ويستنكرون لعن الصحابة الذين
عارضواعليا في الخلافة، ومعظم هؤلاء من الزيدية الذين خرجوا
في جند يحيى بن عمر لقتال بني العباس، فهم لايقولون في
نصرة‏آل علي اشد مما قال ابن الرومي، ولا يتمنون لهم اكثر
مما تمناه.
ويلوح لنا ان ابن الرومي ورث التشيع وراثة من امه وابيه، لان
امه كانت فارسية‏الاصل فهي اقرب الى مذهب قومهاالفرس في
نصرة العلويين، ولان اباه سماه عليا وهو من اسماء الشيعة
المحبوبة التي يتجنبها المتشددون من انصار الخلفاء،ولا حرج
على ابي الشاعر ان يتشيع وهو في خدمة بيت من بيوت
العباسيين، لان مواليه كانوا اناسا بعيدين من الخلافة‏وولاية
العهد، وهما علة البغضاء الشديدة بين العباسيين والعلويين،
وقد اتفق لبعض الخلفاء وولاة العهد انفسهم انهم كانوايكرمون
عليا وابناءه، كما كان مشهورا عن المعتضد الخليفة الذي اكثر
ابن الرومي من مدحه، وكما كان مشهورا عن‏المنتصر ولي
العهد الذي قيل انه قتل اباه المتوكل جريرة ملاحاة وقعت
بينهما في الذب عن حرمة علي وآله.
ثم قال بعد استظهار تشيع بني طاهر (ص‏207 209): وان
احق عقيدة ان يجد المرء فيها لعقيدة تجرئه اذا خاف،
وتبسط‏له العذر والعزاء اذا سخط من صروف الحوادث، وتمهد
له الامل في مقبل خير من الحاضر، وادنى منه الى
كشف‏الظلامات ورد الحقوق، وكل اولئك كان ابن الرومي
واجده على اوفاه في التشيع للعلويين اصحاب الامامة
المنتظرة في‏عالم الغيب، على العباسيين اصحاب الحاضر
الممقوت المتمنى زواله، فلهذا كان متشيعا في الهوى، متشيعا
في الرجاء، وكان‏على مذهب غيره من الشعراء وعلى مذهب
غيره من سائر المتشيعين.
اما الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه، بل يظهره
اظهار معتز به، حريص عليه، فمن قوله في ابن حريث:
معتزلي مسر كفر
يبدي ظهورا لها بطون
اارفض الاعتزال رايا
كلا لاني به ظنين
لو صح عندي له اعتقادما دنت ربي بما يدين
وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون
بالاختيار، وينزهون اللّه عن عقاب المجبر على ما يفعل،
وذلك‏واضح من قوله يخاطب العباس بن القاشي ويناشده صلة
المذهب:
ان لا يكن بيننا قربى فصرة
للدين يقطع فيها الوالد الولدا
مقالة العدل والتوحيد تجمعنا
دون المضاهين من ثنى ومن جحدا
وبين مستطرفي غي مرافقة
ترعى فكيف اللذان استطرفا رشدا
كن عند اخلاقك الزهر التي جعلت
عليك موقوفة مقصورة ابدا
ما عذر معتزلي موسر منعت
كفاه معتزليا مقترا صفدا
ايزعم القدر المحتوم ثبطه
ان قال ذاك فقد حل الذي عقدا
ام ليس مستاهلا جدواه صاحبه
انى وما جار عن قصد ولا عندا
ام ليس يمكنه ما يرتضيه له
يكفي اخا من اخ ميسور ما وجدا
لا عذر فيما يريني الراي علمه
للمرء مثلك الا ياتي السددا
فواضح من كلامه هذا انه معتزلي، وانه من اهل العدل
والتوحيد، وهو الاسم الذي تسمى به القدرية، لانهم
ينسبون‏العدل الى اللّه، فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضى
له وسبق اليه، ولانهم يوحدون اللّه فيقولون: ان القرآن من
خلقه،وليس قديما مضاهيا له في صفتي الوجود والقدم، وقد
اختاروا لانفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين سموهم
القدرية،ورووا فيهم الحديث: القدرية مجوس هذه الامة. فهم
يقولون: ما نحن بالقدرية، لان الذين يعتقدون القدر اولى بان
ينسبوااليه، انما نحن من اهل العدل والتوحيد، لاننا ننزه اللّه
عن الظلم وعن الشريك.
وواضح كذلك من كلامه انه يعتقد حرية الانسان فيما ياتي من
خير وشر، ويحتج على زميله بهذه الحجة فيقول له: لم
لاتثيبني؟ ان قلت: ان القدر يمنعك فقد حللت ما اعتقدت من
اختيار الانسان في افعاله، وان قلت: انك لا تريد فقد
ظلمت‏الصداقة واخللت بالمروءة.
وله عدا هذا ابيات صريحة في اعتقاد الاختيار وخلق الانسان
لافعاله، كقوله:
لولا صروف الاختيار لاعنقوا
لهوى كما اتسقت جمال قطار
وقوله:
انى تكون كذا وانت مخير
متصرف في النقض والامرار
وقوله:
الخير مصنوع بصانعه
فمتى صنعت الخير اعقبكا
والشر مفعول بفاعله
فمتى فعلت الشر اعطبكا
الا انه كان يقول بالقدر في تقسيم الارزاق وان:
الرزق آت بلا مطالبة
سيان مدفوعه ومجتذبه
ويقول:
اما رايت الفجاج واسعة
واللّه حيا والرزق مضمونا
قال الاميني: هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي
تطلبه كما فصله الحديث((156)).
ولا تناقض عند القدرية في هذا، لانهم يقولون بالاختيار فيما
يعاقب عليه الانسان ويثاب، لا فيما يناله من الرزق
وحظوظ‏الحياة.
اما القول بالطبيعتين فاوضح ما يكون في‏قوله:
فينا وفيك طبيعة ارضية
تهوي بنا ابدا لشر قرار
هبطت بدم قبلنا وبزوجه
من جنة الفردوس افضل دار
فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها
من تلكم الجنات والانهار
بئست لعمر اللّه تلك طبيعة
حرمت ابانا قرب اكرم جار
واستاسرت ضعفى بنيه بعده
فهم لها اسرى بغير اسار
لكنها ماسورة مقصورة
مقهورة السلطان في الاحرار
فجسومهم من اجلها تهوي بهم
ونفوسهم تسمو سمو النار
لولا منازعة الجسوم نفوسهم
نفروا بسورتها من الاقطار
او قصروا فتناولوا باكفهم
قمر السماء وكل نجم سار
قال الاميني: لقد عزى الكاتب هاهنا الى المترجم هنات لا
مقيل لها في مستوى الحقيقة، ومنشا ذلك بعده عن
علم‏الاخلاق، وعدم تعقله معنى الشعر، فحسبه منافيا للتوحيد
الذي جاء به نبي الاسلام، لكن العارف باساليب الكلام، العالم‏بما
جبل به الانسان من الغرائز المختلفة، لايكاد يشك في صحة
معنى الشعر، وهو يعرب عن المام ابن الرومي
بالاخلاق،والمتكفل لتفصيل هذه الجملة كتب الاخلاق وما
يضاهيها، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.
قال: وابن الرومي كان مفطورا على التدين لانه كان مفطورا
على التهيب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان
من‏منافذ الايمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود،
ومن ثم كان مؤمنا باللّه خوفا من الشك، مقبلا على
التسليم،بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر
السكينة على اي شي‏ء. وبلغ من بساطته انه كان ينكر على
الحكماءالذين يشكون في حفظ اجساد الاتقياء بعد الموت
ويحسبونه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن ابي ناظرة حين
تذوق‏بعض الاجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:
ياذائق الموتى ليعلم هل بقوا
بعد التقادم منهم بدواء
بينت عن رعة وصدق امانة
لولا اتهامك خالق الاشياء
احسبت ان اللّه ليس بقادر
ان يجعل الاموات كالاحياء
وظننت ما شاهدت من آياته
بلطيفة من حيلة الحكماء
ومات وهو يقول في ساعاته الاخيرة:
الا ان لقاء الل
ه هول دونه الهول
وما كانت الطيرة عنده الا شعبة من ذلك التهيب الديني
الغريزي فيه، فهو يتفلسف ويرى الاراء في الدين، ولكن
في‏حدودمن الشعور لا في حدود من التفكير، ولهذا كان الفنان
ولم يكن الفيلسوف.
قال الاميني: الطيرة ليست من شعب الدين، ولا يركن اليها اي
خاضع له ومل‏ء مسامعه قول الصادع به (ص): «لا طيرة‏ولاحام‏».
وانما هي من ضعف النفس غير المتقوية بنور اليقين، والتوكل
على اللّه في ورد وصدر، ولذا كانت شائعة في‏الجاهلية ونفاها
الاسلام.
قال: وليس من الاجتراء انه قال بالاختيار، وراى له في الدين
رايا غير ما اصطلح عليه السواد، فانه كان يحيل الذنب‏على
الانسان، وينفي الظلم عن القدر في العقاب والثواب، ويتصور
اللّه على احسن ما يتصور المتفلسف مثله الهه، فكانماجاءه هذا
الراي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وانما دفع به
الى راي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت‏تخامره، فلا
يستريح حتى يسكن فيها الى قرار، وينتهي فيها الى بر الامان،
ولذلك كان ياوي الى الاصدقاء يكاشفهم بما في‏صدره،
ويستعين بهم على تفريج غمته:
ويدمج اسباب المودة بيننا
مودتنا الابرار من آل هاشم
واخلاصنا التوحيد للّه وحده
وتذبيبنا عن دينه في المقاوم
بمعرفة لا يقرع الشك بابها
ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
واعمالنا التفكير في كل شبهة
بها حجة تعيي دهاة التراجم
يبيت كلانا في رضى اللّه ماحضا
لحجته صدرا كثير الهماهم((157))
بيد ان الايمان شي‏ء واداء الفرائض الدينية شي‏ء آخر، فقصارى
الايمان عنده انه يؤمنه بقرب آل البيت، وتنزيه ربه،والاطمئنان
الى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له
اللعب والمرح، ولا اهلا بالصيام اذا قطع عليه‏مااشتهى من لذة
وارب:
فلا اهلا بمانع كل خير
واهلا بالطعام وبالشراب
بل لا حرج عليه اذا قضى ليلة في السرور ان يشبهها بليلة
المعراج:
رفعتنا السعود فيها الى الفو
ز فكانت كليلة المعراج
ذلك انه كان في تقواه طوع الاحساس الحاضر، كما كان في
كل حالة من حالاته. يلعب فلا يبالي ان يتماجن حيث
لايليق‏مجون، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يباريه احد من
المتعبدين، ويخيل اليك انك تستمع الى متعبد عاش عمره
في‏الصوامع حين تستمع اليه يقول:
تتجافى جنوبهم
عن وط‏ي‏ء المضاجع
كلهم بين خائف
مستجير وطامع
تركوا لذة الكرى
للعيون الهواجع
ورعوا انجم الدجى
طالعا بعد طالع
لو تراهم اذا هم
خطروا بالاصابع
واذا هم تاوهوا
عند مر القوارع
واذا باشروا الثرى
بالخدود الضوارع
واستهلت عيونهم
فائضات المدامع
ودعوا يا مليكنا
ياجميل الصنائع
اعف عنا ذنوبنا
للوجوه الخواشع
اعف عنا ذنوبنا
للعيون الدوامع
انت ان لم يكن لنا
شافع خير شافع
فاجيبوا اجابة
لم تقع في المسامع
ليس ما تصنعونه
اوليائي بضائع
ابذلوا لي نفوسكم
انها في ودائع
وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض
ولا محيي الدين.
قال الاميني: ليس ما ارته ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة
مخامرة الشبه والشكوك كما يراه المترجم، وانما هي
وليدة‏البرهنة الصادقة، وانه لم يعط القدر حقه محاباة له، لكن
الحجج الدامغة الجاته الى ذلك، وكذلك ما يقوله في باب
الارزاق،فهي تقادير محضة غير ان الانسان كلف بتحري
الاسباب الظاهرية جريا على النواميس الالهية المطردة في
النظام‏العالمي‏الاتم ، وهذه مسائل كلامية لا يروقنا الخوض
فيها الا هنالك.
واما اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربه، فهو
شان كل مؤمن باللّه، عارف بكمال قدسه وصفاته
الجمالية‏الجلالية، وليس قرب اهل البيت الطاهر: الا نتيجة
مودتهم التي هي اجر الرسالة بنص من الذكر الحكيم، وانما
مثلهم كمثل‏سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق،
وهم عدل الكتاب، وقد خلفهما رسول اللّه (ص) بعده وقال: «ما
ان‏تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي‏»، فاحر بهم ان يكون القرب
منهم مؤمنا للانسان نشاته الاخرى، واما ما عزاه اليه من‏مظاهر
المجون، فهي معان شعرية لا يؤاخذ بها القائل، وكم للشعراء
الاعفاء امثالها.
هجاؤه
اخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجاءين، هما اشهر
الهجائين في ادب العصور الاسلامية عامة، احدهما ابن
الرومي،والاخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء والامراء وهاجي
الناس جميعا والقائل:
اني لافتح عيني حين افتحها
على كثير ولكن لا ارى احدا
وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد، وضرب بهما المثل
لهجاء الدهر لبنيه، فقال:
لو انصف الدهر هجا اهله
كانه الرومي او دعبل
وليس للمؤرخ الحديث ان يضيف اسما جديدا الى هذين
الاسمين، فان العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من
يضارعهمافي قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع
هذا نوع فذ في‏الهجاء يظهر متى قرن بالاخر.
فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب ... (لا يهمنا ما ذكره في
دعبل)((158)).
اما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم
يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الادب، ولكنه
كان‏فنانابارعا اوتي ملكة التصوير، ولطف التخيل والتوليد،
وبراعة اللعب بالمعاني والاشكال، فاذا قصد شخصا او
شيئابهجاءصوب اليه (مصورته) الواعية، فاذا ذلك الشخص او
ذلك الشي‏ء صورة مهياة في الشعر تهجو نفسها بنفسها،
وتعرض‏للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع الاشكال
في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر
لاشكاله،او لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.
وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم، ويلصق به
كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على‏اللذات،
فاذا حذفت من هجوه كل ما اوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية
في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه، ولم‏يبق منه الا ما
هو من قبيل الفكاهة والتصوير.
وكان لصاحبنا فن واحد من الهجاء، لا ترتاب في انه كان يختاره
ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجئه النقمة اليه، ونعني‏به
فن التصوير الهزلي والعبث بالاشكال المضحكة والمناظر
الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما
يطبع‏المصور على نقل ما يراه، واعطاء التصوير حقه من الاتقان
والاختراع، وما نراه كان يقع عنه في شعره، ولو بطلت‏ضروراته
وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفن ادخل في التصوير
منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة،وقدرة‏تطلب وليس
بخلة تنبذ، وانت لا يغضبك ان ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه
ماهرا فيه، خبيرا بمغامزه وخوافيه، وان‏كان يغضبك ان تراه
يشتم المشتوم، ويهين المهين، ويهجو من يستهدف عرضه
للهجاء، لانك اذا منعته ان يفطن الى الصورالهزلية وان يفتن
في ادراك معانيها وتمثيل مشابهاتها منعت ملكة فيه ان تنمو،
وابيت على حاسته الصادقة فيه ان تصدقه‏وتفقه ما تقع عليه،
اما اذا منعت الهجاء وبواعثه، فانك تمنع خلقا يستغنى عنه،
وميلا لابد له من التقويم.
ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب
للاعتذار، فاما ما عدا ذلك من هجائه فهو مسوق فيه لا
سائق،ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الاحيان لا
مستثير، وانك لتقرا له قوله:
ما استب قط اثنان الا غلبا
شرهما نفسا واما وابا
فلا تصدق ان قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف
المهجوين بكل نقيصة، لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك‏انه
كان يسكن الى رشده احيانا، فيسام الهجاء ويعافه ويود الخلاص
منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه، ويعتزم التوبة‏عن الهجاء
مقسما:
آليت لا اهجو طوا
ل الدهر الا من هجاني
لا بل ساطرح الهجا
ء وان رماني من رماني
امن الخلائق كلهم
فلياخذوا مني اماني
حلمي اعز علي من
غضبي اذا غضبي عراني
اولى بجهلي بعد ما
مكنت حلمي من عناني
وهذا اشبه بابن الرومي لانه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم
يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان‏شريرا
لما اضطر الى كل هذا الهجاء، او هو لو كان اكثر شرا لكان اقل
هجاء، لانه كان يامن من جانب العدوان فلا يقابله‏بمثله، وما
كان الهجاء عنده كما قلنا الا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما
كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابههمامن ضروب
الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم
والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولاباتقائه، وكثير من
الاشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الارض، يقضون
الحياة دون ان تسمع منهم كلمة ذم في‏انسان، وكثير من
الناس يذمون ويتسخطون لانهم على ذلك مطبوعون.
ومن قرا مراثي ابن الرومي في اولاده، وامه، واخيه، وزوجته،
وخالته، وبعض اصدقائه، علم منها انها مراثي رجل مفطورعلى
الحنان ورعاية الرحم والانس بالاصدقاء و الاخوان، فمراثيه هي
التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي‏كان
يمليها الطمع والرغبة، او اهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة
الصبر على خلائق الناس. ففي هذه المراثي تظهر لنا
طبيعة‏الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد
البار، والاخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود،
والقريب‏الرؤوف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم
يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد، مطبوعا على الكيد والايذاء.
واذا اختلف القولان بينه وبين ابناء عصره فاحجى بنا ان نصدق
كلامه هو في ابناء عصره قبل ان نصدق كلامهم فيه،لانهم كانوا
يستبيحون ايذاءه، ويستسهلون الكذب عليه لغرابة اطواره،
وتعود الناس ان يصدقوا كل ما يرمى به غريب‏الاطوار من التهم
والاعاجيب، في حين انه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر
الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة‏الشكاية وعلما منه بقلة
الانصاف:
اتاني مقال من اخ فاغتفرته
وان كان فيما دونه وجه معتب
وذكرت نفسي منه عند امتعاضها
محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
ومثلي راى الحسنى بعين جلية
واغضى عن العوراء غير مؤنب
فيا هاربا من سخطنا متنصلا
هربت الى انجى مفر ومهرب
فعذرك مبسوط لدينا مقدم
وودك مقبول باهل ومرحب
ولو بلغتني عنك اذني اقمتها
لدي مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارما
خليلي اذا ما القلب لم يتقلب
فالرجل لم يكن شريرا، ولا ردي‏ء النفس، ولا سريعا الى النقمة،
فلماذا اذن كثر هجاؤه، واشتد وقوعه في اعراض‏مهجويه؟ نظن
انه كان كذلك لانه كان قليل الحيلة، طيب السريرة، خاليا من
الكيد والمراوغة والدسيسة، وما شابه هذه‏الخلائق من ادوات
العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب ان الشعر
والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه‏وارتقائه الى مراتب الوزارة
والرئاسة، لانه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة،
ويجمعون في مناصبهم الوف‏الالوف، ويحظون بالزلفى عند
الامراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع
الرواية، مشاركا في المنطق‏والفلك واللغة، وكل ماتدور عليه
ثقافة زمان، او كما قال المسعودي: كان الشعر اقل ادواته.
وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الامال، فماذا بعد ان
يعرف الناس انه شاعر، وانه كاتب، وانه راوية مطلع على‏الفلسفة
والنجوم الا ان تجيئه الوزارة ساعية اليه تخطب وده، كما جاءت
الى اناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في‏البلاغة
مكانه؟! الم يصل ابن الزيات الى الوزارة بكلمة واحدة فسرها
للمعتصم وفصل له تفسيرها، وهي كلمة الكلا التي‏يعرفها عامة
الادباء؟ بلى، وابن الرومي كان يعرف من غرائب اللغة ما لم يكن
يعرفه شعراء عصره ولا ادباؤه، فما اولاه‏اذن بالوزارة! وما اظلم
الدنيا ان هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء!
فاذا لم تكن الوزارة، فهل اقل من الكتابة او العمالة لبعض
الوزراء والكتاب المبرزين؟ فاذا لم يكن هذا ولا ذاك،
فهل‏غبن‏اصعب على النفس من هذا الغبن؟ وهل تقصير من
الزمان الام من هذا التقصير؟
ونبوءة ابيه ورجاؤه في مستقبله وقوله: انت للشرف، ايذهب هذا
كله هباء لايقبض منه اليدين على شي‏ء؟ تلك النبوءات‏التي
تنطبع على افئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة
واحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضميراغوارها، اياتي
الشباب وهي محو لغو مطموس لايبين، اولا يبين منه الا ما
ينقلب الى الاضداد، وتترجمه الايام بالسقم‏والفقر والكساد؟
وكيف يمحى الا وقد محي القلب الذي طبعت فيه؟ وكيف
ينعكس معناه الا وقد انعكس في القلب كل‏قائم والتوى فيه كل
قويم؟ ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل، الا على من
يلهو به وهو بعيد.
وهكذا كان ابن الرومي يسال نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:
ما لي اسل من القراب واغمد
لم لا اجرد والسيوف تجرد
لم لا اجرب في الضرائب مرة
يا للرجال وانني لمهند
ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لانه لم يكن يدري ان
فضائله كلها لاتساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم باساليب‏الدخول
بين الناس، وان الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو
كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب‏الفلسفة والرواية
والنجوم.
حسن، اذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد ياس مضيض
يسهل علينا هنا ان نسطره في كلمة عابرة، ولكنه لايسهل‏على
من يعالجه ويشقى بمحنته في كل ساعة من ساعات حياته،
ندع الوزارة والولاية والعمالة، ونقنع بالمثوبة من الوزراءوالولاة
والعمال، ان كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟