سلام عليكم، فاني احمد اليكم‏اللّه الذي لا اله الا هو، اما بعد:
فان للّه عباداآمنوا بالتنزيل، وعرفوا التاءويل،وفقهوا في الدين،
وبين اللّه فضلهم في القرآن الحكيم، وانتم في ذلك الزمان
اعداء للرسول، تكذبون بالكتاب،مجمعون على حرب
المسلمين، من ثقفتم منهم حبستموه او عذبتموه او قتلتموه،
حتى اراد اللّه تعالى اعزازدينه، واظهار امره، فدخلت العرب في
الدين افواجا، واسلمت له هذه الامة طوعا وكرها، فكنتم
فيمن‏دخل في هذا الدين اما رغبة او رهبة، على حين فاز اهل
السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الاولون بفضلهم،ولا ينبغي
لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين، ولا فضائلهم في
الاسلام، ان ينازعهم الامر الذي هم اهله،واولى به فيحوب
ويظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل ان يجهل قدره، ويعدو
طوره، ويشقي نفسه بالتماس ماليس باءهله، فان اولى الناس
باءمر هذه الامة قديما وحديثا اقربها من الرسول، واعلمها
بالكتاب، وافقهها في‏الدين، اولهم اسلاما، وافضلهم جهادا،
واشدهم بما تحمله الائمة من امر الامة اضطلاعا، فاتقوا اللّه
الذي اليه‏ترجعون، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق
وانتم تعلمون، واعلموا ان‏خيار عباد اللّه الذين‏يعملون
بمايعلمون، وان شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل اهل
العلم، فان‏للعالم بعلمه فضلا، وان الجاهل لايزداد بمنازعته
العالم الا جهلا، الا واني ادعوكم الى كتاب اللّه وسنة نبيه،
وحقن دماء هذه الامة، فان قبلتم‏اصبتم رشدكم، واهتديتم
لحظكم، وان ابيتم الا الفرقة وشق عصا هذه الامة، لم تزدادوا
من اللّه الا بعدا، ولايزداد الرب عليكم الا سخطا،
والسلام))((1450)).
راجع((1451)): الامامة والسياسة (1/20، 71، 72، 77، 78)،
كتاب صفين(ص‏34، 38، 58، 59، 62 65 طبعة‏مصر)، كامل
المبرد (1/155، 157)، العقد الفريد (2/233، وفي طبعة:
ص‏284) نهج البلاغة (2/7، 8، 30،35، 98)، شرح ابن ابي
الحديد (1/77، 136، 248، 252 و 3/300، 302)، صبح الاعشى
(1/229)، نهاية‏الارب (7/233). ومر بعض هذه الكتب بتمامه
في هذا الجزء.
قال الاميني : الم تعلم ايها القارئ الكريم عقيب ما استشففت
هذه الكتب المترددة بين امام الحق ورجل‏السوء معاوية، انه
حين يسر حسوا في ارتغاء((1452))، محتجا بقتل عثمان تارة،
وبايواء قاتليه تارة اخرى،وبطلبه حقن الدماء كمن لا يبتغيه هو،
انه كان لا يبتغي الا الخلافة؟ وانه يعدو اليها ضابحا، ويضحي
دونهابكل غال ورخيص، ويهب دونها الولايات، ويمنح تجاهها
المنائح، ويهب الرضائخ، ويستهوي بها النفوس‏الخائرة،
ومهملجي نهمة الحاكمية، ويستهين ببيعة المهاجرين
والانصار، وهم الب واحد لبيعة امام الهدى‏صلوات اللّه عليه،
ويحسبهم قد فارقوا الحق وخبطوا في العمى، ويرجح كفة
الشام على كفة عاصمة‏الاسلام، واهلوه هم الصحابة العدول من
المهاجرين والانصار، على انه ليس للطليق ابن الطليق ان
يتدخل‏في شاءن‏هم اثبتوا دعائمه، وشيدوا معالمه، ومن الذي
منحه النظر في امر هذا شاءنه؟ ومتى كان له ولطغام الشام‏ان
يجابهوا امرة الحق التي نهض بها اهل الحل والعقد؟ ولم يباشر
الحرب هنالك الا بعد ان اتم الامام (ع)عليه الحجة، والحب له
الطريق، واوقفه على حكم اللّه البات وامره النهائي، غير ان
معاوية في اذنه وقر عن‏سماع كلم الحق والبخوع لها، والملك
عقيم.
تصريح لا تلويح يعرب عن مرمى ابن هند :
مر في سالف القول (ص‏317) ان معاوية قال لجرير: يجعل علي
له الشام ومصر جباية، ويكون الامر له‏بعده، حتى يكتب اليه
بالخلافة، وكتب بذلك اليه(ع)،وكتب اليه (ع) يساءله اقراره
على الشام، فكتب اليه‏علي (ع):
((اما بعد: فان الدنيا حلوة خضرة، ذات زينة وبهجة، لم يصب
اليها احد الا شغلته بزينتها عما هو انفع له‏منها، وبالاخرة امرنا،
وعليها حثثنا، فدع يا معاوية ما يفنى، واعمل لما يبقى، واحذر
الموت الذي اليه‏مصيرك، والحساب الذي اليه عاقبتك، واعلم
ان اللّه تعالى اذا اراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يكره،
ووفقه‏لطاعته، واذا اراد بعبد سوءا اغراه بالدنيا وانساه الاخرة،
وبسط له امله، وعاقه عما فيه صلاحه، وقدوصلني كتابك
فوجدتك ترمي غير غرضك، وتنشد غير ضالتك، وتخبط في
عماية، وتتيه في ضلالة، وتعتصم‏بغير حجة، وتلوذ باءضعف
شبهة.
فاءما سؤالك المتاركة والاقرار لك على الشام، فلو كنت فاعلا
ذلك اليوم لفعلته امس، واما قولك: ان عمرولا كه فقد عزل
من كان ولا ه صاحبه((1453))، وعزل عثمان من كان عمر ولا
ه((1454))، ولم ينصب للناس امام الا ليرى من صلاح الامة ما
قد كان ظهر لمن قبله او اخفي عنه عيبه، والامر يحدث بعده
الامر، ولكل وال راي‏واجتهاد))((1455)).
وكتب الرجل اليه(ص) ثانية قبل ليلة الهرير بيومين او ثلاثة
يساءله اقراره على الشام، وذلك ان عليا(ع)قال: ((لاناجزنهم
مصبحا )). وتناقل الناس كلمته، ففزع اهل الشام لذلك، فقال
معاوية: قد رايت ان اعاودعليا واساءله اقراري على الشام، فقد
كنت كتبت اليه ذلك فلم يجب اليه((1456))، ولاكتبن ثانية،
فاءلقي في نفسه‏الشك والرقة، فكتب اليه:
اما بعد: فانك لو علمت وعلمنا ان الحرب تبلغ بنا وبك ما
بلغت، لم يجنها بعضنا على بعض، ولئن كنا قدغلبنا على
عقولنا، لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى، ونصلح به ما
بقي، وقد كنت ساءلتك الشام على‏ان لا تلزمني لك بيعة
وطاعة، فاءبيت ذلك علي، فاءعطاني اللّه ما منعت، وانا ادعوك
اليوم الى ما دعوتك اليه‏امس، فاني لا ارجو من البقاء الا ما
ترجو، ولا اخاف من الفناء الا ما تخاف، وقد واللّه رقت
الاجناد،وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على
بعض فضل الا فضل لا يستذل به عزيز، ولايسترق به حر،
والسلام.
فاءجابه علي (ع):
((اما بعد فقد جاءني كتابك تذكر انك لو علمت وعلمنا ان
الحرب تبلغ بنا وبك «ما بلغت‏»((1457)) لم يجنهابعضنا على
بعض، فاني لو قتلت في ذات اللّه وحييت، ثم قتلت ثم حييت
سبعين مرة لم ارجع عن الشدة في‏ذات اللّه، والجهاد لاعداء
اللّه، واما قولك: انه قد بقي‏من عقولنا ما نندم على ما مضى
فاني ما تنقصت عقلي،ولا ندمت على فعلي، واما طلبك الي
الشام فاني لم اكن لاعطيك اليوم ما منعتك امس، واما قولك:
ان‏الحرب قد اكلت «العرب‏»((1458)) الا حشاشات انفس
بقيت، الا ومن اكله الحق فالى الجنة، ومن اكله الباطل‏فالى
النار)) الكتاب((1459)).
وكتب معاوية الى ابن عباس:
اما بعد: فانكم معشر بني هاشم لستم الى احد اسرع منكم
بالمساءة الى انصار ابن عفان حتى انكم قتلتم‏طلحة والزبير
لطلبهما بدمه، واستعظامهما ما نيل منه، فان كان ذلك
منافسة لبني امية في السلطان، فقد وليهاعدي وتيم((1460))
فلم‏تنافسوهم واظهرتم لهم الطاعة.
وقد وقع من الامر ما قد ترى، وادالت هذه الحرب بعضنا على
بعض حتى استوينا فيها، فما يطمعكم فينايطمعنا فيكم، وما
يؤيسنا منكم يؤيسكم منا، ولقد رجونا غير الذي كان، وخشينا
دون ما وقع، ولستم‏ملاقينا اليوم باءحد من حدكم امس، ولا
غدا باءحد من حدكم اليوم، وقد قنعنا بما في ايدينا من ملك
الشام،فاقنعوا بما في ايديكم من ملك العراق، وابقوا على
قريش، فانما بقي من رجالها ستة: رجلان بالشام،ورجلان
بالعراق، ورجلان بالحجاز، فاءما اللذان بالشام فاءنا وعمرو، واما
اللذان بالعراق فاءنت وعلي، وامااللذان بالحجاز فسعد وابن
عمر((1461))، فاثنان من الستة ناصبان لك، واثنان واقفان
فيك، وانت راس هذاالجمع، ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا
اليك اسرع منا الى علي.
فكتب ابن عباس اليه:
اما بعد: فقد جاءني كتابك وقراته، فاءما ما ذكرت من سرعتنا
بالمساءة الى انصار عثمان وكراهتنا لسلطان‏بني امية، فلعمري
لقد ادركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره
حتى صرت الى ما صرت اليه،وبيني وبينك في ذلك ابن عمك
واخو عثمان الوليد بن عقبة، واما طلحة والزبير فانهما اجلبا
عليه، وضيقاخناقه، ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك،
فقاتلناهما على النكث وقاتلناك على البغي، واما قولك: انه‏لم
يبق من قريش الا ستة فما اكثر رجالها، واحسن بقيتها! وقد
قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا الا من خذلك، واما
اغراؤك ايانا بعدي وتيم، فان ابابكر وعمر خير من عثمان كما
ان عثمان خير منك، وقد بقي‏لك منا ما ينسيك ما قبله وتخاف
ما بعده، واما قولك: انه لو بايعني الناس استقمت((1462))،
فقد بايع الناس‏علياوهو خير مني فلم تستقم له((1463))، وما
انت وذكر الخلافة يا معاوية؟ وانما انت طليق وابن
طليق،والخلافة للمهاجرين الاولين، وليس الطلقاء منها في
شي‏ء والسلام((1464)).وفي لفظ ابن قتيبة: فما انت‏والخلافة؟
وانت طليق الاسلام، وابن راس الاحزاب، وابن آكلة الاكباد من
قتلى بدر.
وخطب معاوية بعد دخوله الكوفة وصلح الامام السبط سلام اللّه
عليه، فقال: يا اهل الكوفة اتراني‏قاتلتكم على الصلاة والزكاة
والحج؟ وقد علمت انكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكنني
قاتلتكم لاتاءمرعليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني اللّه ذلك وانتم
كارهون، الا ان كل مال او دم اصيب في هذه الفتنة
فمطلول،وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين. شرح ابن ابي
الحديد((1465)) (4/6)، تاريخ ابن كثير((1466))
(8/131)واللفظ للاول.
قال معروف بن خربوذ المكي: بينا عبداللّه بن عباس جالس في
المسجد ونحن بين يديه، اذ اقبل معاوية‏فجلس اليه فاءعرض
عنه ابن عباس، فقال له معاوية: مالي اراك معرضا؟ الست تعلم
اني احق بهذا الامرمن ابن عمك؟ قال: لم لانه كان مسلما
وكنت كافرا؟ قال: لا، ولكني ابن عم عثمان. قال: فابن عمي
خير من‏ابن عمك. قال: ان عثمان قتل مظلوما. قال: وعندهما
ابن عمر، فقال ابن عباس: فان هذا واللّه احق بالامرمنك. فقال
معاوية: ان عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم. فقال ابن عباس:
ذاك واللّه ادحض لحجتك.مستدرك الحاكم((1467))
(3/467).
قال الاميني : ان هذه الكلم لتعط‏ي القارئ دروسا ضافية من
تحري معاوية للخلافة لا غيرها من اول يومه،ولم يكن في وسع
ابن آكلة الاكباد دفع شي‏ء مما كتب اليه من ذلك، وانه كان
يريد، على فرض قصوره عن‏نيل كل الامنية، القناعة ببعضها،
فيصفو له ملك الشام ومصر، وللامام (ع) ما تحت يده من
الحواضرالاسلامية وزرافات الاجناد، عسى ان يتخذ ذلك
وسيلة للتوصل الى بقية الامل في مستقبل ايامه، وكانت‏هذه
القسمة ابتداعا في امر الخلافة الاسلامية، وتفريقا بين صفوفها،
لم تاءل الى سابقة في الدين، ولا امضاهااهله في دور من
الادوار، وانما هي فصمة في الجماعة، وتفريق للطاعة، وتفكيك
لعرى الاسلام، وتضعيف‏لقواه، وبيعة عامة تلزم القاصي والداني
لا يستثنى منها جيل دون جيل، ولا يجوز انحياز امة عنها دون
امة،وانما هو الخليفة الاخير الذي اوجبت الشريعة قتله كما مر
حديثه الصحيح الثابت، وانه هو معاوية نفسه،فما كان يسع
الامام (ع) والحالة هذه الا قتال هذا الطاغية او يفي‏ء الى امر اللّه.
فكرة معاوية لها قدم :
ان راي معاوية في خلافة الامام (ع) لم يكن وليد يومه ولا بنت
ليلته، وانما كان مناوئا منذ فرق بينهماالاسلام، وقتل في يوم
واحد اخوه وجده وخاله بسيف علي (ع)، فلم يزل يلهج ويهملج
في‏تفخيذ الناس‏عنه صلوات اللّه عليه من يوم قتل عثمان،
بعث رجلا من بني عميس وكتب معه كتابا الى الزبير بن
العوام،وفيه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم، لعبد اللّه الزبير امير المؤمنين من
معاوية بن ابي سفيان.
سلام عليك. اما بعد: فاني قد بايعت لك اهل الشام، فاءجابوا
واستوسقوا كما يستوسق الحلب((1468))، فدونك‏الكوفة
والبصرة لا يسبقك اليهما ابن ابي طالب، فانه لا شي‏ء بعد
هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن‏عبيداللّه من بعدك،
فاءظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس الى ذلك، وليكن
منكما الجد والتشمير، اظفركمااللّه، وخذل مناوئكما.
فسر الزبير بهذا الكتاب، واعلم به طلحة، ولم يشكا في النصح
لهما من قبل معاوية، واجمعا عند ذلك على‏خلاف علي (ع).
شرح ابن ابي الحديد((1469)) (1/77).
قال الاميني : انظر الى دين الرجل و ورعه، يستسيغ ان
يخاطب الزبير بامرة المؤمنين لمحض حسبانه انه بايع‏له
اجلاف اهل الشام، ولا يقول بها لامير المؤمنين حقا علي (ع)
وقد تمت له بيعة المسلمين جمعاء، وفي‏مقدمهم الزبير نفسه،
وطلحة بن عبيداللّه الذي حاباه معاوية ولاية العهد بعد صاحبه،
فغرهما على نكث‏البيعة، فذاقا وبال امرهما، وكان عاقبتهما
خسرا.
وانت ترى ان الطلب بدم عثمان قنطرة النزاع في الملك،
ووسيلة النيل الى الاماني من الخلافة الباطلة، اوحاه‏معاوية الى
الرجلين ( وان الشياطين ليوحون الى اوليائهم )((1470)).
ويدعو الرجل لمناوئي علي (ع) بالظفر وعليه (ع) بالخذلان،
والصادع الكريم يقول في الصحيح المتفق عليه:((اللهم وال
من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله)).
وكتب الى الزبير ايضا:
اما بعد: فانك الزبير بن العوام، ابن ابي خديجة((1471))، وابن
عمة((1472)) رسول‏اللّه(ص) وحواريه،وسلفه((1473))وصهر
ابي بكر، وفارس المسلمين، وانت الباذل في اللّه مهجته بمكة
عند صيحة الشيطان، بعثك‏المنبعث، فخرجت كالثعبان
المنسلخ بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع، كل
ذلك قوة ايمان وصدق‏يقين، وسبقت لك من رسول اللّه(ص)
البشارة بالجنة، وجعلك عمر احد المستخلفين على الامة.
واعلم يا ابا عبداللّه: ان الرعية اصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة
الراعي، فسارع رحمك اللّه الى حقن الدماء،ولم الشعث، وجمع
الكلمة، وصلاح ذات البين، قبل تفاقم الامر، وانتشار الامة، فقد
اصبح الناس على شفاجرف هار، عما قليل ينهار ان لم يراب،
فشمر لتاءليف الامة، وابتغ الى ربك سبيلا، فقد احكمت
الامرمن‏قبلي لك ولصاحبك على ان الامر للمقدم، ثم لصاحبه
من بعده، جعلك اللّه من ائمة الهدى، وبغاة الخيروالتقوى،
والسلام((1474)).
الا مسائل ابن هند عن قوله: ان الرعية اصبحت كالغنم
المتفرقة. الى آخره. لماذا اصبحت؟ ومتى اصبحت؟وكيف
اصبحت؟ وراعيها الذي يرقبها ويرقب كل صالح لها، ويشمر
لدرء كل معرة عنها، هو صنو رسول‏اللّه ونفسه، الامام المنصوص
عليه، وقد اجمعت الامة على بيعته لولا ان معاوية يكدر الصفو،
ويقلق السلام،ويفرق الكلمة بدسائسه وتسويلاته، فمثله كما
قال مولانا امير المؤمنين (ع) كمثل الشيطان ياءتي المرء
من‏بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، لم يجعل اللّه
له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في‏الاسلام.
وكتب الى طلحة :
اما بعد: فانك اقل قريش في قريش وترا، مع صباحة وجهك،
وسماحة كفك، وفصاحة لسانك، فاءنت بازاءمن تقدمك في
السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم احد وشرفه
وفضله، فسارع رحمك اللّه الى ماتقلدك الرعية من امرها، مما
لا يسعك التخلف عنه، ولا يرضى اللّه منك الا بالقيام به، فقد
احكمت لك الامرقبلي، والزبير فغير متقدم عليك بفضل،
وايكما قدم صاحبه فالمقدم الامام، والامر من بعده للمقدم له،
سلك‏اللّه بك قصد المهتدين، ووهب لك رشد الموفقين،
والسلام((1475)).
قال الاميني : لمسائل هاهنا ان يحفي معاوية السؤال عن ان ما
تبجح به للزبير وطلحة من الفضائل التي‏استحقا بها الخلافة
هل كان علي (ع) خلوا منها؟ يذكر لهما البشارة بالجنة، وان
زبيرا احد اولئك المبشرين،وان طلحة خامسهم، فهلا كان
علي(ع) عاشرهم؟ فلماذا سلخها عنه، وحثهما على المبادرة
اليها حتى لايسبقهما اليها ابن ابي طالب؟! وان كان تلكم
البشارة المزعومة بمجردها كافية في اثبات الجدارة
للخلافة‏فلماذا اخرج عنها سعد بن ابي وقاص؟ وهو احد القوم
المبشرين وكان يومئذ حيا يرزق، ولعل طمعه فيهماكان آكد،
فحلب حلبا له شطره.
والاعجب قوله لطلحة: فاءنت بازاء من تقدمك في السابقة. فهلا
كان امير المؤمنين اول السابقين واولاهم‏بالمثر كلها؟ وهلا
ثبت عن رسول اللّه(ص) قوله: ((السباق ثلاثة: السابق الى
موسى يوشع، وصاحب‏ياسين الى عيسى، والسابق الى‏محمد
علي بن ابي طالب))((1476)).
وهلا صح عند امة محمد(ص) ان عليا اول من آمن باللّه،
وصدق نبيه(ص) وصلى معه، وجاهد في‏سبيله؟
وان كان لطلحة يوم احد شرفه وفضله فلعلي (ع) مغازي
الرسول(ص) كلها، من بدر واحد وخيبروالاحزاب وحنين ويوم
حمراء الاسد((1477))، هب ان معاوية كان في اذنه وقر من
شركه لم يسمع نداء جبريل‏ورضوان يوم ناديا:
لافتى الا علي
لا سيف الا ذوالفقار((1478))
فهل كان في بصره عمى كبصيرته لا يبصر نضال علي ونزاله
في تلكم المعارك‏الدامية؟ نعم، معاوية لا يرى‏مواقف علي (ع)
فضلا وشرفا، لانه هو الذي اثكل امهات بيته، وضرب اقذلة اخيه
وجده وخاله وابناءبيته الساقط بسيفه البتار، والى هذا يومى‏ء
قوله لطلحة: فانك اقل قريش في قريش وترا.
ومن كتاب له الى مروان :
فاذا قرات كتابي هذا فكن كالفهد، لا يصطاد الا غيلة، ولا
يتشازر الا عن حيلة، وكالثعلب لا يفلت الا روغانا، واخف نفسك
منهم اخفاء القنفذ راسه عند لمس الاكف، وامتهن((1479))
نفسك امتهان من يياءس القوم‏من نصره وانتصاره، وابحث عن
امورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند
فقاسها((1480))،وانغل((1481))الحجاز، فاني‏منغل الشام،
والسلام((1482)).
قال الاميني : هذه شنشنة معاوية منذ بلغه امر الامام (ع)
وانعقاد البيعة له، فوجد نفسه عند الامة في معزل‏عن المشورة
او اعتضاد في راي، وان البيعة لاحقته لا محالة، فلم يجد
منتدحا عن اقلاق الامر على صاحب‏البيعة الحقة، وان يستدني
منه امانيه الخلابة بتعكير الصفو له (ع)، فطفق يفسد ما
اطماءن اليه من الامصار،ويوعز في كتبه الى افساد الراي،
وتفريق الكلمة، وهو ضالته المنشودة.
وان تعجب فعجب اخذه البيعة لطلحة والزبير واحدا بعد آخر
وقد ثبت في اعناقهما بيعة الامام (ع)، وكانت‏هذه البيعة ابان
ثبوت بيعتهما كما ينم عنه نص كتبه اليهما، ثم ومن هو معاوية
حتى يرشح احداللخلافة بعدانعقاد الاجماع لخليفة الحق؟ ولم
يكن هو من اهل الترشيح حتى لو لم تنعقد البيعة المذكورة.
على ان الغبي لم يهتد الى ان اخذ البيعة لهما مستلزم لنكثهما
البيعة الاولى، وما غناء امام ناكث عن مناجح‏الامة ومصالحها؟
مع انهما على تقدير صحة البيعة‏يكون كل منهما ثاني
الخليفتين الذي يجب قتله بالنصوص‏الصحيحة
الثابتة((1483))، فهل هناك خليفة على المسلمين يجب
اعدامه؟!
مناظرات وكلم :
1 قال ابو عمر في الاستيعاب((1484)) كان عبدالرحمن بن
غنم الصحابي من افقه اهل الشام وهو الذي فقه‏عامة التابعين
بالشام، وكانت له جلالة وقدر، وهو الذي عاتب ابا هريرة وابا
الدرداء بحمص اذ انصرفا من‏عند علي (رضى‏ا...عنه)
رسولين‏لمعاوية، وكان مما قال لهما: عجبا منكما، كيف جاز
عليكما ما جئتما به،تدعوان عليا الى ان يجعلها شورى، وقد
علمتما انه قد بايعه المهاجرون والانصار واهل الحجار والعراق،
وان‏من رضيه خير ممن كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه؟
واي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاءالذين لا تجوز
لهم الخلافة؟ وهو وابوه من رؤوس الاحزاب، فندما على
مسيرهما وتابا منه بين يديه‏رحمة اللّه عليهم.
2 خرج رجل من اهل الشام يوم صفين ينادي بين الصفين: يا
ابا الحسن يا علي ابرز الي. فخرج اليه‏علي حتى اذا اختلفت
اعناق دابتيهما بين الصفين فقال: يا علي ان لك قدما في
الاسلام وهجرة، فهل لك في‏امر اعرضه عليك يكون فيه حقن
هذه الدماء، وتاءخير هذه الحروب حتى ترى رايك؟ فقال
له‏علي((وماذاك))؟ قال: ترجع الى عراقك، فنخل ي بينك
وبين العراق، ونرجع الى شامنا فتخلي بيننا وبين‏شامنا. فقال له
علي: ((لقد عرفت انما عرضت هذا نصيحة وشفقة، ولقد اهمني
هذا الامر واسهرني، وضربت‏انفه وعينه فلم اجد الا القتال او
الكفر بما انزل اللّه على محمد(ص)، ان اللّه تبارك وتعالى لم
يرض‏من اوليائه‏ان يعصى في الارض وهم سكوت مذعنون، لا
ياءمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال‏اهون
علي من معالجة الاغلال في جهنم))((1485)).
3 قال عتبة بن ابي سفيان لجعدة بن هبيرة: يا جعدة انا واللّه
ما نزعم ان معاوية احق بالخلافة من‏علي‏لولا امره في عثمان،
ولكن معاوية احق بالشام، لرضا اهلها به، فاعفوا لنا عنها، فواللّه
ما بالشام رجل‏به طرق الا وهو اجد من معاوية في‏القتال، ولا
بالعراق من له مثل جد علي في الحرب، ونحن اطوع‏لصاحبنا
منكم لصاحبكم، وما اقبح بعلي ان يكون في قلوب المسلمين
اولى الناس بالناس، حتى اذا اصاب‏سلطانا افنى العرب.
فقال جعدة: اما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه
اثنان، واما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم‏بها امس فلم نقبل،
واما قولك: انه ليس بالشام من رجل الا وهو اجد من معاوية،
وليس بالعراق لرجل‏مثل جد علي، فهكذا ينبغي ان يكون،
مضى بعلي يقينه، وقصر بمعاوية شكه، وقصد اهل الحق خير
من‏جهد اهل الباطل. الحديث.
كتاب صفين (ص‏529 طبعة مصر)، شرح ابن ابي الحديد
(2/301)((1486)).
4 من خطبة لعبد اللّه بن بديل الخزاعي يوم صفين: ان معاوية
ادعى ما ليس له، ونازع الامر اهله، ومن‏ليس مثله، وجادل
بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالاعراب والاحزاب،
وزين لهم الضلالة،وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم
الامر، وزادهم رجسا الى رجسهم.
تاريخ الطبري (6/9)، كتاب صفين لابن مزاحم (ص‏263)،
كامل ابن الاثير (3/128)، شرح ابن ابي
الحديد(1/483)((1487)).
5 من كلمة لعبد اللّه ايضا يخاطب بها امير المؤمنين (ع):
يا امير المؤمنين: ان القوم لو كانوا اللّه يريدون، او للّه يعلمون، ما
خالفونا، ولكن القوم انما يقاتلون فرارا من‏الاسوة، وحبا للاثرة،
وضنا بسلطانهم، وكرها لفراق دنياهم التي في ايديهم، وعلى
احن في انفسهم،وعداوة‏يجدونها في صدورهم، لوقائع اوقعتها
يا امير المؤمنين بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم واخوانهم.
ثم التفت الى الناس فقال: فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل
اخاه حنظلة،وخاله الوليد، وجده عتبة في‏موقف واحد؟ واللّه ما
اظن ان يفعلوا((1488)).
6 من خطبة ليزيد بن قيس الارحبي بصفين: ان هؤلاء القوم
ما ان يقاتلوننا على اقامة دين راونا ضيعناه،ولا على احياء حق
راونا امتناه، ولا يقاتلوننا الا لهذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة
وملوكا. الى آخر ما مر في(ص‏59).
7 من كتاب لسعد بن ابي وقاص الى معاوية:
اما بعد: فان اهل الشورى ليس منهم احد احق بها من صاحبه،
غير ان علياكان من السابقة، ولم يكن فيناما فيه، فشاركنا في
محاسننا، ولم نشاركه في محاسنه، وكان احقنا كلنا بالخلافة،
ولكن مقادير اللّه تعالى التي‏صرفتها عنه حيث شاء لعلمه
وقدره، وقد علمنا انه احق بها منا، ولكن لم يكن بد من الكلام
في ذلك‏والتشاجر، فدع ذا، واما امرك يا معاوية فانه امر كرهنا
اوله وآخره، واما طلحة والزبير فلو لزما بيعتهمالكان خيرا لهما،
واللّه تعالى يغفر لعائشة ام المؤمنين.
الامامة والسياسة((1489)) (1/86).
8 من كتاب لمحمد بن مسلمة الى معاوية:
ولعمري يا معاوية ما طلبت الا الدنيا، ولا اتبعت الا الهوى، ولئن
كنت نصرت عثمان ميتا، لقد خذلته حيا،ونحن ومن قبلنا من
المهاجرين والانصار اولى بالصواب.
الامامة والسياسة((1490)) (1/87).
الى كتابات وخطابات لجمع من صلحاء السلف، يجدها الباحث
مبثوثة في فصول هذا الجزء من كتابنا.
قال الاميني : هذه كلمات تامات ممن كانوا يرون معاوية
ويشهدون اعماله، وقد عرفوا نفسياته ومغازيه منذعرفوه وثنيا
ومستسلما حتى وقفوا عليه من كثب، وقد تعالى به الوقت بل
تسافل حتى طفق يطمع مثله في‏الخلافة الاسلامية، وبينهما
ذاك البون الشاسع، وخلال الفضائل التي تخلى عنها، والملكات
الرذيلة الذي حازشية عارها والبرهنة الناصعة التي اكفاءته عنها
بخفي حنين، وهؤلاء وان اختلفت كلماتهم لكنها ترمي
الى‏مغزى واحد من عدم كفاءة الطاغية لما يرومه من امرة
المسلمين، او ما يتحراه من حكومة الشام، خلافة‏مختزلة عن
الخلافة الاسلامية الكبرى المنعقدة لاهلها يومئذ، او انه لا
يتحرى الا امرة مغتصبة، ومالها من‏مفعول اثرة وثراء، او انه
منبعث عن ضغائن واحن مما اصاب اهله وذويه من الامام (ع)،
فقتلوا تقتيلا تحت‏راية الاوثان، وظهر امر اللّه وهم كارهون.
ولم يكن لمعاوية واصحابه مرمى غير الاسفاف الى هذه الهوات
السحيقة مما خفي على هؤلاء الحضور،واستكشفه من بعدهم
المهملجون وراء الحزب السفياني، الحاملون ولاء ذلك البيت
الساقط، وانت ترى انه‏لا يقام في سوق الدين لشي‏ءمنهااي
قيمة، ولا تكون لها اي عبرة، فدحضا لدعوة
الباطل،وسحقالشرة الاستعباد.
وكان ابن هند الجاهل بنفسه والانسان على نفسه بصيرة يرى
نفسه احق بالخلافة من عمر، كما جاء في مااخرجه البخاري في
صحيحه((1491))، عن عبداللّه بن عمر قال: دخلت على
حفصة ونسواتها تنطف((1492))، قلت:قد كان من امر الناس ما
ترين فلم يجعل لي من الامر شي‏ء. فقالت: الحق فانهم
ينتظرونك واخشى ان‏يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم
تدعه حتى ذهب.
فلما تفرق الناس خطب معاوية((1493))، قال: من يريد ان
يتكلم في هذا الامر فليطلع لنا قرنه، فلنحن احق به‏منه ومن
ابيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا اجبته؟ قال عبداللّه: فحللت
حبوتي وهممت ان اقول: احق بهذاالامر منك من قاتلك واباك
على الاسلام. فخشيت ان اقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك
الدم، ويحمل‏عني غير ذلك، فذكرت ما اعد اللّه في الجنان. قال
حبيب: حفظت وعصمت.
اين كان ابن عمر عن هذه العقلية التي حفظ بها وعصم يوم
تقاعس عن بيعة امير المؤمنين الامام الحق بعداجماع الامة
المسلمة عليها، ولم يخش ان يقول كلمة تفرق بين الجمع
وتسفك الدم؟ ففرق الجمع، وشق عصاالمسلمين، وسفكت
دماء زكية، واللّه من ورائهم حسيب.
ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخاة لمعاوية،
بل ينبئنا التاريخ: انه لم يك يتحاشى عن ان‏يعرفه الناس
بالرسالة، ويقبلونه نبيا بعد نبي العظمة، روى ابن جرير الطبري
بالاسناد: ان عمرو بن العاص‏وفد الى معاوية ومعه اهل مصر،
فقال لهم عمرو: انظروا اذا دخلتم على ابن هند فلا تسلموا
عليه بالخلافة‏فانه اعظم لكم في عينه، وصغروه ما استطعتم،
فلما قدموا عليه، قال معاوية لحجابه: اني كاءني اعرف
ابن‏النابغة، وقد صغر امري عند القوم، فانظروا اذا دخل الوفد
فتعتعوهم اشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني‏رجل منهم الا
وقد همته نفسه بالتلف، فكان اول من دخل عليه رجل من اهل
مصر يقال له: ابن‏الخياط. فدخل وقد تعتع، فقال: السلام عليك
يارسول اللّه فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم‏عمرو:
لعنكم اللّه، نهيتكم ان تسلموا عليه بالامارة فسلمتم عليه
بالنبوة((1494)).
ولعل هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند
جمع ممن تولى معاوية بعد وفاته.
قال شمس الدين البناء المقدسي((1495)) في كتابه احسن
التقاسيم في معرفة الاقاليم((1496)) (ص‏399): وفي
اهل‏اصفهان بله وغلو في معاوية، ووصف لي رجل بالزهد
والتعبد فقصدته، وتركت القافلة خلفي، وبت عنده‏تلك الليلة،
وجعلت اسائله الى ان قلت: ما قولك في الصاحب((1497))،
فجعل يلعنه ثم قال: انه اتانا بمذهب لانعرفه. قلت وما هو؟ قال:
يقول: معاوية لم يكن مرسلا: قلت: وما تقول انت؟ قال: اقول
كما قال اللّهعزوجل : ( لا نفرق بين اءحد من رسله )((1498))،
اءبو بكر كان مرسلا، وعمر كان مرسلا، حتى ذكر الاربعة،
ثم‏قال: ومعاوية كان مرسلا. قلت: لا تفعل، اما الاربعة فكانوا
خلفاء ومعاوية كان ملكا، وقال النبي(ص):الخلافة بعدي الى
ثلاثين سنة ثم تكون ملكا. فجعل يشنع علي واصبح يقول
للناس: هذا رجل رافضي، فلولم ادرك القافلة لبطشوا بي، ولهم
في هذا الباب حكايات كثيرة.
هب ان القوم اخذت منهم الرهبة ماءخذه فلم يلتفتوا الى ما
يقولون، لكن هذا الذي يدعي الخلافة عن‏رسول اللّه بملكه
العضوض هلا كان عليه ان يردعهم عن ذلك التسليم المحظور
او يسكن روعتهم فيرجعواالى حق المقام؟ لولا ان معاوية لم
يكن له في مبوئه ذلك ضالة الا الحصول على الملوكية الغاشمة
باسم‏الخلافة المغتصبة! لانه لا يبلغ امنيته الا بها، فلا يبالي
اسلم عليه بالربوبية او الرسالة او امرة المؤمنين، وقدحاول
ارغام ابن النابغة فيما توسمه منه في مقتبله ذلك، فبلغ ما اراد،
فحالت نشوة الغلبة بينه وبين ان يجعل‏لامره الامر، او امرته
الخرقاء صورة محفوظة.
ياءنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل، ولم يشنع على من
يسلم عليه بالرسالة،غير انه لم يرقه ان يذكرنبي‏الاسلام
بالرسالة، ويزريه بذكر اسمه، وهو يعلم ان العظمة لا تفارقه،
والرسالة تلازمه، ذكر الحفاظ من‏محاورة جرت بين معاوية
وبين امد بن ابد الحضرمي((1499))، ان معاوية قال: ارايت
هاشما؟ قال: نعم واللّه طوالاحسن الوجه، يقال: ان بين عينيه
بركة. قال: فهل رايت امية؟ قال: نعم، رايته رجلا قصيرا اعمى،
يقال: ان‏في وجهه شرا او شؤما. قال: افرايت محمدا؟ قال: ومن
محمد؟ قال: رسول اللّه. قال: افلا فخمته كما فخمه‏اللّه، فقلت:
رسول اللّه((1500))؟!
التحكيم لماذا:
ان آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدا
الامر، وان تستر بها آونة على الاغبياء،وتترس بطلب دم عثمان
دون نيل الامنية بين القوم آونة اخرى، حين سولت له نفسه ان
يستحوذ على امرة‏المسلمين بالدسائس، فاءول تلكم البذرة او
القنطرة الاولى الطلب بدم عثمان، وفي آخر الحيل الدعوة
الى‏تحكيم كتاب اللّه واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء
ظهورهم، وكان مولانا امير المؤمنين (ع) يدعوهم‏منذ اول
ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند، ومنذ نشوب الحرب
الطاحنة((1501)) الى التحكيم الصحيح الذي لايعدو محكمات
القرآن ونصوصه، لولا ان ابن النابغة وصاحبه يسيران على الامة
غدرا ومكرا، وعلى امام‏الحق خيانة وظلما غير ما يتظاهران به
من تحكيم الكتاب، فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة،
ومظاهرالعدوان، بين دهاء ابن العاص وحمارية الاشعري، بين
قول ابي موسى لابن العاصي:لا وفقك اللّه
غدرت‏وفجرت((1502))، انما مثلك كمثل الكلب ان تحمل
عليه يلهث او تتركه يلهث، وبين قول ابن العاصي لابي‏موسى:
وانما مثلك مثل الحمار يحمل اسفارا((1503))،فوئد الحق،
واودي بالحقيقة، بين شيطان وغبي، فكان من‏المتسالم عليه
بين الفريقين ان الخلافة هي المتوخاة لكل منهما، ولذلك
انعقد التحكيم، وبه كان يلهج خطباءالعراق وامراؤهم عند
النصح للاشعري، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحق، وبلج
الاصلاح. فمن قول‏ابن عباس للاشعري:
انه قد ضم اليك داهية العرب، وليس في معاوية خلة يستحق
بها الخلافة، فان تقذف بحقك على باطلة‏تدرك حاجتك منه،
وان يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك، واعلم يا ابا
موسى ان معاوية طليق‏الاسلام، وان اباه راس الاحزاب، وانه
يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فان زعم لك ان
عمروعثمان استعملاه فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي
عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي،
ويوجره((1504))مايكره، ثم استعمله عثمان براي عمر، وما
اكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم ان لعمرو مع كل
شي‏ءيسرك خباء يسوؤك، ومهما نسيت فلا تنس ان عليا بايعه
القوم الذين بايعوا ابابكر وعمر وعثمان، وانها بيعة‏هدى، وانه لم
يقاتل الا العاصين والناكثين. شرح ابن ابي الحديد((1505))
(1/195).
ومن قول الاحنف بن قيس له: ادع القوم الى طاعة علي، فان
ابوا فادعهم ان يختار اهل الشام من قريش‏العراق من احبوا،
ويختار من قريش الشام من احبوا((1506)).
ومن قول شريح بن هانئ للاشعري: انه لا بقاء لاهل العراق ان
ملكهم معاوية، ولا باءس على اهل الشام ان‏ملكهم علي، فانظر
في ذلك نظر من يعرف هذا الامر حقا، وقد كانت منك تثبيطة
ايام الكوفة والجمل، فان‏تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا،
والرجاء منك ياءسا، ثم قال:
ابا موسى رميت بشر خصم
فلا تضع العراق فدتك نفسي
واعط الحق شامهم وخذه
فان اليوم في مهل كاءمس
وان غدا يجي‏ء بما عليه
كذاك الدهر من سعد ونحس
ولا يخدعك عمرو ان عمرا
عدو اللّه مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها
مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب
كشيخ في‏الحوادث غير نكس
هداه اللّه للاسلام فردا
سوى عرس النبي واي عرس((1507))
ومن قول معاوية لعمرو بن العاص: ان خوفك العراق فخوفه
بالشام، وان‏خوفك مصر فخوفه باليمن، وان‏خوفك عليا فخوفه
بمعاوية.
ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية: ارايت ان ذكر عليا وجاءنا
بالاسلام والهجرة واجتماع الناس عليه،ما اقول؟ فقال معاوية:
قل ما تريد وترى. الامامة والسياسة((1508)) (1/99، وفي
طبعة: ص‏113).
قال الاميني: هذه صفة الحال، ومصاص الحقيقة، من نوايا اهل
العراق واهل الشام من طلب كل منهماالخلافة، واثباتها
لصاحبه، ودونه تحقق الخلع والتثبيت، وعليه وقع التحكيم
حقا او باطلا، ولم يكن السامع‏يجد هنالك قط من دم عثمان
ركزا، ولا عن ثاراته ذكرا، وانما تطامنت النفوس على تحري
الخلافة فحسب،ولقصر النزاع على الخلافة محيت امرة
المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الامام (ع) عن صحيفة الصلح.
فلقد تمخضت لك صورة الواقع من امنية معاوية الباطلة في
كل من هذه العناوين الستة المذكورة المدرجة‏تحت:
1 حديث الوفود.
2 انباء في طيات الكتب.
3 تصريح لا تلويح.
4 فكرة معاوية لها قدم.
5 مناظرات وكلم.
6 التحكيم لماذا؟
فاءين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه البات بقصر النزاع بين
الامام (ع) وبين ابن هند على طلب ثارات‏عثمان لا الخلافة؟
لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين الفا
ضحية لشهواته ومطامعه،وهو يحسب انه لا يوافيه مناقش في
الحساب، او ناظر الى صفحات التاريخ نظر تنقيب وامعان،
وكاءنه لايخجل ان جاثاه منقب، او واقفه مجادل، كما انه لا
يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة، وان اللّه
سبحانه‏لبالمرصاد.
ونختم البحث بكلمة الباقلاني، قال في التمهيد (ص‏231): ان
عقد الامامة لرجل على ان يقتل الجماعة‏بالواحد لا محالة خطاء
لا يجوز، لانه متعبد في ذلك باجتهاده والعمل على رايه، وقد
يؤدي الامام اجتهاده‏الى ان لا يقتل الجماعة بالواحد، وذلك
راي كثير من الفقهاء، وقد يكون ممن يرى ذلك، ثم يرجع عنه
الى‏اجتهاد ثان، فعقد الامر له على الا يقيم الحد الا على مذهب
من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل‏ممن عقده ورضي
به.
وعلى انه اذا ثبت ان عليا ممن يرى قتل الجماعة بالواحد، لم
يجز ان يقتل جميع‏قتلة عثمان الا باءن تقوم البينة‏على القتلة
باءعيانهم، وباءن يحضر اولياء الدم‏مجلسه يطالبوا بدم ابيهم
ووليهم، ولا يكونوا في حكم من يعتقدانهم بغاة عليه، وممن لا
يجب استخراج حق لهم، دون ان يدخلوا في الطاعة، ويرجعوا
عن البغي، وباءن‏يؤدي الامام اجتهاده الى ان قتل قتلة عثمان
لا يؤدي الى هرج عظيم، وفساد شديد، قد يكون فيه مثل
قتل‏عثمان او اعظم منه، وان تاءخير اقامة الحد الى وقت
امكانه، وتقصي الحق فيه، اولى واصلح للامة، والم‏لشعثهم،
وانفى للفساد والتهمة عنهم.
هذه امور كلها تلزم الامام في اقامة الحدود، واستخراج الحقوق،
وليس لاحد ان يعقد الامامة لرجل من‏المسلمين بشريطة
تعجيل اقامة حد من حدود اللّه، والعمل فيه براي الرعية، ولا
للمعقود له ان يدخل في‏الامامة بهذا الشرط، فوجب اطراح هذه
الرواية((1509)) لو صحت، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة
فقبل‏هو ذلك، لكان هذا خطاء منهم، غير انه لم يكن بقادح في
صحة امامته، لان العقد له قد تقدم هذاالعقدالثاني، وهذه
الشريطة لا معتبر بها، لان الغلط في هذا من الامام، الثابتة
امامته ليس بفسق يوجب خلعه‏وسقوط فرض طاعته عند احد.
الكلام.
حجج داحضة :
استرسل ابن حجر في تدعيم ما منته به هواجسه اقتصاصا منه
اثر سلفه في تبرير اعمال معاوية القاسية،والاعتذار عنه بما
ركبه من الموبقات، وتصحيح خلافته باسهاب في القول
وتطويل من غير طائل في‏الصواعق((1510)) (ص‏129 131)
بما تنتهي خلاصة ما لفقه الى امرين:
احدهما : القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء باثمه، من
حروب دامية، ونزاع مع خليفة الوقت، الى مايستتبعانه من
مخاريق ومرديات من ازهاق نفوس بريئة تعد بالالاف
المؤلفة((1511))،وفيهم‏ثلاثمائة‏ونيف‏من‏اهل بيعة‏الشجرة،
وجماعة من البدريين((1512))، ولفيف من المهاجرين
والانصار، وعدد لا يستهان به‏من الصحابة العدول او التابعين
لهم باحسان، وهو يحسب ان شيئا من هذه التلفيقات يبرر ما
حظرته‏الشريعة في نصوصها الجلية من الكتاب والسنة، وان
الاجتهاد المزعوم نسق حول معاوية سياجا دون ان‏يلحقه
اي‏حوب كبير، واسدل عليه ستارا عم ا اقترفه من ذنوب وآثام
تجاه النصوص النبوية، ولم يعلم انه‏لا قيمة لاجتهاد هذا شاءنه
يتجهم امام النص، ويتهجم على احكام الدين الباتة وطقوسه
النهائية، بلغ‏الرجل ان الاجتهاد جائز على الضد من اجتهاد
المجتهدين، وما تعقل انه غير جائز على خلاف اللّهورسوله.
وقصارى القول انه ليس عند ابن حجر ومن سبقه الى قوله او
لحقه به((1513)) ضابط للاجتهاد يتم طرده‏وعكسه، وانما
يمطط مع الشهوات والاهواء، فيعذر به خالد بن الوليد في
فجائع بني حنيفة ومالك بن‏نويرة، شيخها الصالح وزعيمها
المبرور، وفضائحه من قتل الابرياء، والدخول على حليلة
الموؤود غيلة‏وخدعة((1514)).
ويعذر به ابن ملجم((1515)) المرادي اشقى الاخرين بنص
الرسول الامين(ص) على ما انتهكه من حرمة‏الاسلام، وقتل
خليفة الحق وامام الهدى في محراب طاعة اللّه، الذي اكتنفته
الفضائل والفواضل من شتى‏نواحيه، واحتفت به النفسيات
الكريمة جمعاء، وقد قال فيه رسول اللّه(ص) ما قاله من كثير
طيب عداه‏الحصر، وكبا عنه الاستقصاء، وهو قبل هذه كلها
نفس النبي الطاهرة في الذكر الحكيم.
قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب((1516)): اهل السير
لا تدافع بينهم ان عليا امر بقتل قاتله قصاصا،ونهى ان يمثل به،
ولا خلاف بين احد من الامة ان ابن ملجم قتل عليا
متاءولا،مجتهدا، مقدرا على‏انه‏على‏صواب، وفي‏ذلك يقول
عمران بن حطان:
يا ضربة من تقي ما اراد بها
الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
اني افكر فيه ثم احسبه
اوفى البرية عند اللّه ميزانا
سننن البيهقي((1517)) (8/58، 59).
ويبرر به عمل ابي الغادية((1518)) الفزاري قاتل عمار،
الممدوح على لسان اللّه ولسان رسوله(ص) ومن‏الصحيح
الثابت قوله(ص) له: ((تقتلك الفئة الباغية)). وقد مر في
(9/21) ويبرئ به ساحة عمرو بن‏العاص((1519)) عن وصمة
مكيدة التحكيم، وقد خان فيها امة محمد(ص) وكسر شوكتها،
وقد قال مولانا اميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه فيه وفي
صاحبه الشيخ المخرف:
((الا ان هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا
حكم القرآن وراء ظهورهما، واحييا ما امات‏القرآن، واتبع كل
واحد منهما هواه، بغير هدى من اللّه، فحكما بغير حجة بينة،
ولا سنة ماضية، واختلفا في‏حكمهما، وكلاهما لم يرشد،فبرئ
اللّه منهما ورسوله وصالح المؤمنين))((1520)).
ويحبذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية((1521)) من البوائق
والطامات، من استئصال شاءفة النبوة وقتل ذراريها،
وسبي‏عقائلها، التي لم تبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء
الا ان يلعنه ويتبرا منه.
ويقدس به اذيال المتقاعدين((1522)) عن بيعة الامام امير
المؤمنين (ع)، على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة‏له،
فماتوا ميتة جاهلية ولم يعرفوا امام زمانهم.
وينزه به السابقون الذين اوعزنا الى سقطاتهم في الدين
والشريعة، في الجزء (6، 7، 8، 9) باءعذار عنهم لاتقل في
الشناعة عن جرائرهم، الى امثال هذه مما لايحصى.
نعم: هناك موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد، فلا يصاخ الى
مفعوله، لوقوف‏الميول والشهوات سدا دون ذلك،فلا يدرا به
التهمة عن المؤلبين على عثمان، وهم عدول الصحابة ووجوه
المهاجرين والانصار، واعيان‏المجتهدين، الذين اخذوا الكتاب
والسنة من نفس رسول اللّه(ص)، فهم عند ابن حزم المبرر
لفتكة اشقى‏مراد باجتهاده المشوم: فساق، ملعونون، محاربون،
سافكون دما حراما عمدا((1523)). وعند ابن تيمية: قوم‏خوارج
مفسدون في الارض، لم يقتله الا طائفة قليلة باغية ظالمة،
واما الساعون في قتله فكلهم مخطئون،بل ظالمون باغون
معتدون((1524)). وعند ابن كثير: اجلاف اخلاط من الناس، لا
شك انهم من جملة المفسدين‏في الارض، بغاة خارجون على
الامام، جهلة، متعنتون، خونة، ظلمة، مفترون((1525)). وعند
ابن حجر: بغاة،كاذبون، ملعونون، معترضون، لا فهم لهم بل ولا
عقل((1526)).
ولو كان للاجتهاد منتوج مقرر فلم لم يتبع في ارجاء امير
المؤمنين (ع) امر المتهمين بقتل عثمان الى ما يراه‏من
المصلحة، فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنة،
فشنت عليه الغارات يوم الجمل وفي‏واقعة صفين، وكان من
ذيولها وقعه الحروريين، فلم يتبع اجتهاد خليفة الوقت الذي
هو باب مدينة علم‏النبي، واقضى الامة بنص من الصادق
المصدق، لكنما اتبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد اللّه ابن
عمر في قتله‏لهرمزان وبنت ابي لؤلؤة، واهدار ذلك الدم
المحرم من غير اي حجة قاطعة او برهنة صحيحة، فلو
كان‏للخليفة مثل ذلك العفو فلم لم يجر حكمه في الاوين الى
مولانا امير المؤمنين من المتجمهرين على عثمان؟ ولم‏يكن
يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الامام من حكمه
البات، ايعط‏ي دية المقتول من بيت‏المال لانه‏اودي به بين
جمهرة المسلمين لا يعرف قاتله، كما فعله في
اربدالفزاري((1527))، او انه يراهم من المجتهدين‏وكانوا
كذلك الذين تاءولوا اصابوا او اخطاءوا، او انه كان يرى من صالح
الخلافة واستقرار عروشها ان‏يرجئ امرهم الى ما وراء ما انتابه
من المثلات، وما هنالك من ارجاف وتعكير يقلقان السلام
والوئام، حتى‏يتمكن من الحصول على تدعيم عرش امرته
الحقة المشروعة، فعلى اي من هذه الاقضية الصحيحة كان‏ينوء
الامام (ع) به، فلا حرج عليه ولا تثريب، لكن سيف البغي الذي
شهروه في وجهه، ابى للقوم الا ان‏يتبع الحق اهواءهم، وماذا
نقموا عليه صلوات اللّه عليه من تلكم المحتملات؟ حتى
يسوغ لهم القاح الحرب‏الزبون التي من جرائها تطايرت
الرؤوس، وتساقطت الايدي، وازهقت نفوس بريئة، واريقت
دماءمحترمة، فباءي اجتهاد بادروا الى الفرقة، وتحملوا اوزارها،
ولم تتجل لهم حقيقة الامر ولباب الحق، لكنهم‏ابتغوا الفتنة،
وقلبوا له الامور، الا في الفتنة سقطوا.
ومن اعجب ما يتراءى من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية:
انه يبيح سب علي امير المؤمنين (ع)وسب‏كل صحابي احتذى
مثاله، ويجوز لاي احد كيف شاء واراد لعنهم، والوقيعة‏فيهم،
والنيل‏منهم، في‏خطب‏الصلوات، والجمعات، والجماعات، وعلى
صهوات المنابر، والقنوت بها، والاعلان بذلك في
الاندية‏والمجتمعات، والخلا والملا، ولا يلحق لفاعلها ذم ولا
تبعة، بل له اجر واحد لاجتهاده خطاء، وان كان هومن حثالة
الناس، وسفلة الاعراب، وبقايا الاحزاب، البعداء عن العلوم
والمعارف.
واما علي وشيعته فلا حق لهم في بيان ظلامتهم عند
مناوئيهم، والوقيعة في‏خصمائهم، ومبلغ اسفافهم الى
هوة‏الضلالة، على حد قوله تعالى ( لا يحب اللّه الجهر بالسوء من
القول الا من ظلم )((1528)) وليس لاحدهم في‏الاجتهاد في
ذلك كله نصيب، ولو كان ضليعا في العلوم كلها، فان احد منهم
نال من انسان من اولئك‏الظالمين فمن الحق ضربه وتاءديبه،
او تعذيبه واقصاؤه، او التنكيل به وقتله، ولا يؤبه باجتهاده
المؤدي الى‏ذلك صوابا او خطاء، وعلى هذا عمل القوم منذ اول
يوم اسس اساس الظلم والجور، وهلم جرا حتى اليوم‏الحاضر.
راجع معاجم السيرة والتاريخ فانها نعم الحكم الفصل، وبين
يديك كلمة ابن حجر في‏الصواعق((1529)) (ص‏132) قال في
لعن معاوية: واما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه
فله فيه اسوة،اي اسوة بالشيخين وعثمان واكثر الصحابة، فلا
يلتفت لذلك، ولا يعول عليه، فانه لم يصدر الا من قوم‏حمقى،
جهلاء، اغبياء، طغاة، لا يبالي اللّه بهم في اي واد هلكوا، فلعنهم
اللّه وخذلهم، اقبح اللعنة والخذلان،واقام على رؤوسهم من
سيوف اهل السنة وحججهم المؤيدة باءوضح الدلائل والبرهان
ما يقمعهم عن‏الخوض في تنقيص اولئك الائمة الاعيان. انتهى.
اتعلم من لعن ابن حجر؟ والى من تتوجه هذه القوارص؟ انظر
الى حديث لعن رسول اللّه(ص) معاوية،واحاديث لعن علي امير
المؤمنين، وقنوته بذلك في صلواته، ولعن ابن عباس، وعمار،
ومحمد بن ابي بكر،ودعاء ام المؤمنين عائشة عليه في دبر
الصلاة، وآخرين من الصحابة، اقرا واحكم!!
الاجتهاد ماذا هو؟:
ومما يجب ان يبحث في المقام هو ان يفهم معنى الاجتهاد،
الذي توسعوا فيه، حتى سفكت الدماء من اجله‏وابيحت، وغصبت
الفروج وانتهكت المحارم، وغيرت الاحكام من جرائه، وكاد ان
يكون توسعهم فيه ان‏يرد الشريعة بدءا الى عقب، ويفصم عروة
الدين، ويقطع حبله.
ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمنة((1530)) لتبديل
السنن المتبعة التي لاتبديل لها؟ وهل هو من منح اللّهسبحانه
على رعاع الناس ودهمائهم، فيتقحمونه كيف شاء لهم‏الهوى؟
او ان له اصولا متبعة لا يعدوهاالمجتهد من كتاب وسنة، او
تاءول صحيح ان ماشينا القوم في امضاء الاجتهاد تجاه النص، او
انه اتسعت‏الفسحة فيه واطلق الصراح حتى نزا عليه كل ارنب
وثعلب، وتحراه كل بوال على عقبيه، او اعرابي جلف‏جاف؟ انا لا
اكاد اسوغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد، وانما
المتسالم عليه بينهم ما يلي:
قال الامدي في الاحكام في اصول الاحكام((1531)) (4/218):
اما الاجتهاد: فهو في اللغة عبارة عن استفراغ‏الوسع في تحقيق
امر من الامور مستلزم للكلفة والمشقة، ولهذا يقال: اجتهد
فلان في حمل حجر البزارة، ولايقال: اجتهد في حمل خردلة.