14 معاوية وعمرو بصورة مفصلة

  الغدير
14 معاوية وعمرو بصورة مفصلة

كتب امير المؤمنين(ع) الى معاوية بن ابي سفيان يدعوه الى بيعته، فاستشار معاوية اخاه عتبة بن ابي سفيان، فقال له:استعن بعمرو بن العاص، فانه من قد علمت في دهائه ورايه، وقد اعتزل امر عثمان في حياته، وهو لامرك اشد اعتزالا، الا ان تثمن له بدينه فسيبيعك، فانه صاحب دنيا. فكتب اليه معاوية وهو بالسبع من فلسطين: اما بعد: فانه قد كان من امر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط الينا مروان بن الحكم في رافضة ((2-634)) اهل‏البصرة، وقدم علينا جرير بن عبداللّه في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك حتى تاتيني، اقبل اذاكرك امرا. فلما قرا الكتاب، استشار ابنيه عبداللّه ومحمدا، فقال لهما: ما تريان؟ فقال عبداللّه: ارى ان نبي اللّه(ص) قبض وهو عنك‏راض، والخليفتان من بعده، وقتل عثمان وانت عنه غائب، فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة، ولا تريد ان تكون‏حاشية‏لمعاوية على دنيا قليلة اوشك ان تهلك فتشقى فيها. وقال محمد: ارى انك شيخ قريش وصاحب امرها، وان تصرم هذا الامر وانت فيه خامل تصاغر امرك، فالحق بجماعة‏اهل الشام فكن يدا من ايديها، واطلب بدم عثمان، فانك قد استنمت فيه الى بني امية. فقال عمرو: اما انت يا عبداللّه، فامرتني بما هو خير لي في ديني، واما انت يا محمد فامرتني بما هو خير لي في دنياي، واناناظر فيه. فلما جنه الليل رفع صوته واهله ينظرون اليه:

تطاول ليلي للهموم الطوارق / وخوف التي تجلو وجوه العوائق

وان ابن هند سائلي ان ازوره / وتلك التي فيها بنات البوائق

اتاه جرير من علي بخطة / امرت عليه العيش ذات مضائق

فان نال مني ما يؤمل ‏رده‏ / وان لم ينله ذل ذل ‏المطابق ((2-635))

فواللّه ما ادري وما كنت هكذا / اكون ومهما قادني فهو سائقي

اخادعه ان الخداع دنية / ام اعطيه من نفسي نصيحة وامق

ام اقعد في بيتي وفي ذاك راحة / لشيخ يخاف الموت في كل شارق

وقد قال عبداللّه قولا تعلقت / به النفس ان لم تقتطعني عوائقي

وخالفه فيه اخوه محمد / واني لصلب العود عند الحقائق

فقال عبداللّه: رحل الشيخ. وفي لفظ اليعقوبي: بال الشيخ على عقبيه وباع دينه بدنياه. فلما اصبح دعا عمرو غلامه وردان وكان داهيا ماردا، فقال: ارحل يا وردان، ثم قال: حط يا وردان، ثم قال:ارحل ياوردان، حط يا وردان! فقال له وردان: خلطت ابا عبداللّه! اما انك ان شئت انباتك بما في نفسك. قال: هات ويحك، قال: اعتركت الدنيا والاخرة‏على قلبك، فقلت: علي معه الاخرة في غير دنيا، وفي الاخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة، وليس في‏الدنيا عوض من الاخرة، فانت واقف بينهما. قال: فانك واللّه ما اخطات، فما ترى يا وردان؟ قال: ارى ان تقيم في بيتك، فان ظهر اهل الدين عشت في عفو دينهم، وان‏ظهر اهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال: الان لما شهدت العرب مسيري الى معاوية، فارتحل وهو يقول:

يا قاتل اللّه وردانا وفطنته / ابدى لعمرك ما في النفس وردان

لما تعرضت الدنيا عرضت لها / بحرص نفسي وفي الاطباع ادهان

نفس تعف واخرى‏الحرص يقلبها ((2-636)) / والمرء ياكل تبنا وهوغرثان ((2-637))

اما علي فدين ليس يشركه / دنيا وذاك له دنيا وسلطان

فاخترت من طمعي دنيا على / بصر وما معي بالذي اختار برهان

اني لاعرف ما فيها وابصره / وفي ايضا لما اهواه الوان

لكن نفسي تحب العيش في شرف / وليس يرضى بذل العيش انسان

عمرو لعمر ابيه غير مشتبه / والمرء يعطس والوسنان وسنان

فسار حتى قدم على معاوية، وعرف حاجة معاوية اليه، فباعده من نفسه، وكايد كل واحد منهما صاحبه. فلما دخل عليه قال: يا ابا عبداللّه طرقتنا في ليلتنا هذه ثلاثة اخبار ليس فيها ورد ولا صدر. قال: وما ذاك؟ قال: ذاك‏ان‏محمد بن ابي حذيفة قد كسر سجن مصر، فخرج هو واصحابه، وهو من آفات هذا الدين. ومنها ان قيصر زحف‏بجماعة الروم الي ليتغلب على الشام. ومنها: ان عليا نزل الكوفة متهيئا للمسير الينا. قال: ليس كل ما ذكرت عظيما، اما ابن ابي حذيفة، فما يتعاظمك من رجل خرج في اشباهه، ان تبعث اليه خيلا تقتله اوتاتيك به، وان فاتك لا يضرك. واما قيصر: فاهد له من وصفاء ((2-638)) الروم ووصائفها، وآنية الذهب والفضة، وسله الموادعة، فانه اليها سريع. واما علي: فلا واللّه يا معاوية! ما تسوي العرب بينك وبينه في شي‏ء من الاشياء، ان له في الحرب لحظا ما هو لاحد من‏قريش، وانه لصاحب ما هو فيه الا ان تظلمه.

وفي رواية اخرى: قال معاوية: يا ابا عبداللّه اني ادعوك الى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه، وقتل الخليفة، واظهر الفتنة،وفرق الجماعة، وقطع الرحم. قال عمرو: الى من؟ قال: الى جهاد علي. فقال عمرو: واللّه يا معاوية ما انت وعلي بعكمي ((2-639)) بعير، ما لك هجرته، ولا سابقته، ولا صحبته، ولا جهاده، ولافقهه، ولا علمه، واللّه ان له مع ذلك حدا وحدودا، وحظا وحظوة، وبلاء من اللّه حسنا، فما تجعل لي ان شايعتك على‏حربه؟ وانت تعلم ما فيه من الغرر والخطر. قال: حكمك. قال: مصر طعمة. فتلكا عليه ((2-640)).

وفي حديث، قال له معاوية: اني اكره لك ان يتحدث العرب عنك، انك انما دخلت في هذا الامر لغرض الدنيا. قال: دعني‏عنك ((2-641)). قال معاوية: اني لو شئت ان امنيك واخدعك لفعلت. قال عمرو: لا لعمر اللّه مامثلي يخدع، لانا اكيس من‏ذلك. قال له معاوية: ادن مني براسك اسارك. قال: فدنا منه عمرو يساره، فعض معاوية اذنه، وقال: هذه خدعة، هل ترى‏في البيت احدا غيري وغيرك؟ فانشا عمرو يقول:

معاوي لا اعطيك ديني ولم انل / بذلك دنيا فانظرن كيف تصنع

فان تعطني مصرا فاربح بصفقة‏ / اخذت بها شيخا يضر وينفع ((2-642))

وما الدين والدنيا سواء وانني / لاخذ ما تعط‏ي وراسي مقنع

ولكنني اغضي الجفون وانني / لاخدع نفسي والمخادع يخدع

واعطيك امرا فيه للملك قوة / واني به ان زلت النعل اصرع

وتمنعني مصرا وليست برغبة ((2-643)) / واني بذا الممنوع قدما لمولع

قال: ابا عبداللّه، الم تعلم ان مصر مثل العراق؟ قال: بلى. ولكنها انما تكون لي اذا كانت لك، وانما تكون لك اذا غلبت‏علياعلى العراق، وقد كان اهلها بعثوا بطاعتهم الى علي. قال: فدخل عتبة بن ابي سفيان، فقال لمعاوية: اما ترضى ان تشتري عمرا بمصر ان هي صفت لك؟ ليتك لاتغلب ‏على‏ الشام.

فقال معاوية: يا عتبة بت عندنا الليلة. فلما ج ن على عتبة الليل، رفع صوته ليسمع معاوية، وقال:

ايها المانع سيفا لم يهز / انما ملت على خز وقز

انما انت خروف ماثل / بين ضرعين وصوف لم يجز

اعط عمرا ان عمرا تارك / دينه اليوم لدنيا لم تحز

يا لك الخير فخذ من دره‏ / شخبه الاولى وابعد ما غرز ((2-644))

واسحب الذيل وبادر فوقها ((2-645)) / وانتهزها ان عمرا ينتهز ((2-646))

اعطه مصرا وزده مثلها / انما مصر لمن عز فبز ((2-647))

واترك الحرص عليها ضلة‏ / واشبب النار لمقرور يكز ((2-648))

ان مصرا لعلي او لنا / يغلب اليوم عليها من عجز

فلما سمع معاوية قول عتبة، ارسل الى عمرو فاعطاه مصر، فقال له عمرو: لي اللّه عليك بذلك شاهد؟. قال له معاوية: نعم‏لك اللّه علي بذلك، لئن فتح اللّه علينا الكوفة. قال عمرو: واللّه على ما نقول وكيل. فخرج عمرو من عنده، فقال له ابناه: ما صنعت؟ قال: اعطانا مصر. قالا: وما مصر في ملك العرب. قال: لا اشبع اللّهبطونكما ان لم يشبعكما مصر. وكتب معاوية على ان لا ينقض شرط طاعة. وكتب عمرو على ان لا ينقض طاعة شرطا. فكايد كل واحد منهما صاحبه.

كتاب صفين لابن مزاحم(ص‏20 24)، كامل المبرد(1/221)، شرح ابن ابي الحديد(1/136 138)، تاريخ‏اليعقوبي(2/161 163)، رغبة الامل من كتاب الكامل(3/108)، قصص العرب(2/362) ((2-649)).