الكميت وحياته المذهبية
يجد الباحث في خلال السير وزبر الحديث، شواهد واضحة على ان الرجل لم يتخذ شاعريته وما كان يتظاهر به منالتهالك في ولاء اهل البيت (ع) وسيلة لما يقتضيه النهمة، وموجبات الشره من التلمظ بما يستفيده من الصلات والجوائز، اوتحري مسانحات وجرايات، او الحصول على رتبة او راتب، انى وآل رسول اللّه كما يقول عنهم دعبل الخزاعي:
ارى فياهم في غيرهم متقسما / وايديهم من فيئهم صفرات
وهم سلام اللّه عليهم فضلا عن شيعتهم:
مشردون نفوا عن عقر دارهم / كانهم قد جنوا ماليس يغتفر
وقد انهالت الدنيا قضها بقضيضها على اضدادهم يوم ذاك من طغمة الامويين، ولو كان المتطلب يطلب شيئا من حطامالدنيا، او حصولا على مرتبة، او زلفة تربي به، لطلبها من اولئك المتغلبين على عرش الخلافة الاسلامية. فرجل يلوي بوجهه عنهم الى اناس مضطهدين مقهورين، ويقاسي من جراء ذلك الخوف والاختفاء، تتقاذف به المفاوزوالحزون، مفترعا ربوة طورا، ومسفا الى الاحضة تارة، ووراءه الطلب الحثيث، وبمطلع الاكمة النطع والسيف، ليس منالممكن ان يكون ما يتحراه الا خاصة في من يتولا هم، لا توجد عند غيرهم، وهذا هو شان الكميت مع ائمة الدين(ع)، فقدكان يعتقد فيهم انهم وسائله الى المولى سبحانه، وواسطة نجاحه في عقباه، وان مودتهم اجر الرسالة الكبرى.
روى الشيخ الاكبر الصفار في بصائر الدرجات ((2-888)) باسناده عن جابر، قال: دخلت على الباقر(ع) فشكوت اليه الحاجة فقال: ((ماعندنا درهم))، فدخل الكميت فقال: جعلت فداك انشدك؟ فقال: انشد، فانشده قصيدة. فقال: ((يا غلام اخرجمن ذلك البيت بدرة فادفعها الى الكميت)). فقال: جعلت فداك، انشدك اخرى؟ فانشده. فقال: ((ياغلام اخرج بدرة فادفعها اليه)). فقال: جعلت فداك، انشدك اخرى؟ فانشده. فقال: ((يا غلام اخرج بدرة فادفعها اليه)) فقال جعلت فداك، واللّه مااحبكم لعرض الدنيا، وما اردت بذلك الا صلة رسول اللّه وما اوجب اللّه علي من الحق، فدعا له الباقر(ع) فقال: ((ياغلام ردها الى مكانها)). فقلت: جعلت فداك، قلت لي: ليس عندي درهم، وامرت للكميت بثلاثين الفا! ((2-889)). فقال: ((ادخل ذلك البيت))، فدخلت فلم اجد شيئا، فقال: ((ما سترنا عنكم اكثر مما اظهرنا)). الحديث.
قال صاعد: دخلنا مع الكميت على فاطمة بنت الحسين(ع)، فقالت: هذا شاعرنا اهل البيت. وجاءت بقدح فيه سويق،فحركته بيدها، وسقت الكميت فشربه، ثم امرت له بثلاثين دينارا ومركب، فهملت عيناه وقال: لا واللّه لا اقبلها، اني لماحبكم للدنيا. الاغاني ((2-890)) (15/123).
وللكميت في رده الصلات الطائلة على سروات المجد من بني هاشم، مكرمة ومحمدة عظيمة، ابقت له ذكرى خالدة،وكلمن تلكم المواقف شاهد صدق على خالص ولائه وقوة ايمانه، وصفاء نيته، وحسن عقيدته، ورسوخ دينه، واباءنفسه، وعلو همته، وثباته في مبدئه العلوي المقدس، وصدق مقاله للامام السجاد زين العابدين(ع): اني قد مدحتك انيكون لي وسيلة عند رسول اللّه. ويعرب عن ذلك كله صريح قوله للامام الباقر محمد بن علي(ع): واللّه ما احبكم لعرض الدنيا، وما اردت بذلك الا صلةرسول اللّه وما اوجب اللّه علي من الحق. وقوله الاخر له(ع): لا واللّه لا يعلم احد اني آخذ منها حتى يكون اللّه غ الذييكافئني. وقوله للامامين الصادقين(ع): واللّه ما احببتكم للدنيا، ولو اردتها لاتيت من هي في يديه، ولكني احببتكمللاخرة. وقوله لعبد اللّه بن الحسن ابن علي(ع): واللّه ما قلت فيكم الا للّه، وما كنت لاخذ على شيء جعلته للّه مالا ولاثمنا.وقوله لعبد اللّه الجعفري: ما اردت بمدحي اياكم الا اللّه ورسوله، ولم اك لاخذ لذلك ثمنا من الدنيا، وقوله لفاطمة بنتالامام السبط: واللّه اني لم احبكم للدنيا. وهذا شان الشيعة سلفا وخلفا، وشيمة كل شيعي صميم، وادب كل متضلعبالنزعات العلوية، وروح كل علوي جعفري، وهذا شعار التشيع ليس الا ، وبمثل هذا فليعمل العاملون.
وكان ائمة الدين ورجالات بني هاشم يلحون في اخذ الكميت صلاتهم، وقبوله عطاياهم، مع اكبارهم محله من ولائه،واعتنائهم البالغ بشانه، والاحتفاء والتبجيل له، والاعتذار منه بمثل قول الامام السجاد صلوات اللّه عليه له: ((ثوابك نعجز عنه ، ولكن ما عجزنا عنه فان اللّه لا يعجز عن مكافاتك)). وهو مع ذلك كله كان على قدم وساق من ابائهواستعفائه، اظهارا لولائه المحض لال اللّه، وقد مر انه رد على الامام السجاد(ع) اربع مائة الف درهم، وطلب من ثيابه التيتلي جسده ليتبرك بها، ورد على الامام الباقر مائة الف مرة وخمسين الفا اخرى، وطلب قميصا من قمصه ورد على الامامالصادق الف دينار وكسوة، واستدعى منه ان يكرمه بالثوب الذي مس جلده. ورد على عبد اللّه بن الحسن ضيعته التياعطى له كتابها، وكانت تسوى باربعة ((2-891)) آلاف دينار، ورد على عبد اللّه الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما كانيقدر بمائة الف درهم.
فكل من هذه خبر يصدق الخبر، بان مدح الكميت عترة نبيه الطاهر وولاءه لهم، وتهالكه بكله في حبهم، وبذله النفسوالنفيس دونهم، ونيله من مناوئيهم، ونصبه العداء لمخالفيهم، لم يكن الا للّه ولرسوله فحسب، وما كان له غرض من حطامالدنيا وزخرفها، ولا مرمى من الثواب العاجل دون الاجل، وكل واقف على شعره يراه كالباحث بظلفه عن حتفه، ويجده مستقتلا بلسانه، قد عرض لبني امية دمه، مستقبلا صوارمهم، كما نص عليه الامام زين العابدين(ع)، وقال: ((اللهم انا لكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حين ضن الناس، واظهر ما كتمه غيره)). وقال عبداللّه الجعفري لبني هاشم: هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم، وعرض دمه لبني امية. وخالد القسري لما اراد قتله راى في شعره غنى وكفاية عن اي حيلة وسعاية عليه، فاشترى جارية وعلمها الهاشمياتوبعثها الى هشام بن عبد الملك، وهو لما سمعها منها، قال: استقتل المرائي. وكتب الى خالد بقتله وقطع لسانه ويده.
فكان الكميت منذ غضاضة من شبيبته التي نظم فيها الهاشميات خائفا يترقب طيلة عمره، مختفيا في زوايا الخمول، الى اناقام بقريضه الحجة، واوضح به المحجة، واظهر به الحق، واتم به البرهنة، وبلغ ضالته المنشودة من بث الدعاية الى العترةالطاهرة، فلما دوخ صيت شعره الاقطار، وقرطت به الاذان، ودارت على الالسن، استجاز الامام ابا جعفر الباقر(ع) انيمدح بني امية صونا لدمه فاجاز له. رواه ابو الفرج في الاغاني ((2-892)) (15/126) باسناده عن ورد بن زيد اخي الكميتقال: ارسلني الكميت الى ابي جعفر(ع) فقلت له: ان الكميت ارسلني اليك وقد صنع بنفسه ما صنع، فتاذن له ان يمدح بنيامية؟ قال: نعم. هو في حل، فليقل ما شاء، فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها:
فالان صرت الى امي / ة والامور الى المصائر
ودخل على ابي جعفر(ع) فقال له: ((يا كميت انت القائل:
فالان صرت الى امي / ة والامور الى المصائر؟))
قال: نعم. قد قلت، ولا واللّه ما اردت به ((2-893)) الا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم، قال: ((اما ان قلت ذلك، ان التقية لتحل)).
وروى الكشي في رجاله ((2-894)) (ص135) باسناده عن درست بن ابي منصور، قال: كنت عند ابي الحسن موسى (ع) وعنده الكميت بن زيد، فقال للكميت: ((انت الذي تقول:
فالان صرت الى امي / ة والامور الى المصائر))
قال: قد قلت ذلك فواللّه ما رجعت عن ايماني، واني لكم لموال، ولعدوكم لقال، ولكني قلته على التقية. قال: اما لئن قلت ذلك، ان التقية تجوز في شرب الخمر.
لفت نظر
احسب ان الامام المذكور في حديث الكشي هو ابو عبداللّه الصادق(ع)، ولا يتم ما فيه من ابي الحسن موسى (ع)، اذالكميت توفي بلا اختلاف اجده سنة (126) قبل ولادة ابي الحسن موسى بسنتين او ثلاث. كمالايتم القول باتحاده معحديث ابي الفرج المروي عن الامام ابي جعفر، اذ درست بن ابي منصور لا يروي عنه (ع)، وليس من تلك الطبقة.