حديث دهائه
يجد القارئ شواهد قوية على ذلك من مواقفه العظيمة في المغازي، ونظراته العميقة في الحروب، وآرائه المتبعة في مهماتالقضايا، وافكاره العالية في امارته، واعظام الامام امير المؤمنين محله من الدهاء، واكباره رايه في حكومته، فانه لما قدمقيس من ولاية مصر على علي، واخبره الخبر الجاري بينه وبين رجال مصر ومعاوية، علم انه كان يقاسي اموراعظاما من المكايدة، فعظم محل قيس عنده، واطاعه في الامر كله. تاريخ الطبري ((2-366))(5/231).
فعندها تجد سيد الخزرج قيسا في الطبقة العليا من اصحاب الراي، ومن مقدمي رجالات النهى والحجا، وتشاهد هناكآيات عقله المطبوع والمكتسب، وتعده اعظم دهاة العرب حين ثارت الفتن، وسعرت نار الحرب، ان لم نقل: اعظم دهاةالعالم، ونرى له التقدم في الفضيلة على الخمسة ((2-367)) الذين عدوه منهم، واولاهم بالعقلية الناضجة، وتجد دون محلهالشامخ ما في الاستيعاب ((2-368))(2/538) وغيره ((2-369))من انه احد الفضلاء الجلة من دهاة العرب، من اهل الراي والمكيدةفي الحرب، مع النجدة والسخاء والشجاعة. قال الحلبي في سيرته: من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لراى العجب من وفور عقله. وقال ابن كثير في البداية ((2-370))(8/99): ولا ه علي نيابة مصر وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص.
وكان الامام السبط الحسن يوصي امير عسكره عبداللّه بن العباس وهو امير اثني عشر الفا من فرسان العرب، وقراءمصر، بمشاورة قيس بن سعد والمراجعة اليه في مهام الحرب مع معاوية، والاخذ برايه في سياسة الجيش، كما ياتي حديثه.
وكان ثقيلا جدا على معاوية واصحابه، ولما قدم قيس الى المدينة من مصر، اخافه مروان والاسود بن ابي البختري، فظهرقيس الى علي(ع) فكتب معاوية الى مروان والاسود يتغيظ عليهما، ويقول: امددتما عليا بقيس بن سعد ورايه ومكايدته،فواللّه لو انكما امددتماه بمائة الف مقاتل، ما كان ذلك باغيظ الي من اخراجكما قيس ابن سعد الى علي. تاريخ الطبري ((2-371))(6/53). وعالج معاوية قلوب اصحابه، وامنهم من ناحية قيس، بافتعال كتاب عليه وقراءته على اهل الشام، كما ياتي تفصيله.
وكان قيس يرى نفسه في المكيدة والدهاء فوق الكل واولى الجميع، ويقول: لولا اني سمعت رسول اللّه(ص) يقول: ((المكر و الخديعة في النار)) لكنت من امكر هذه الامة ((2-372))، ويقول: لولا الاسلام لمكرت مكرا لا تطيقه العرب ((2-373)).
فشهرته بالدهاء مع تقيده المعروف بالدين، وكلاءته حمى الشريعة، والتزامه البالغ في اعمال الراي بما يوافق رضا مولاهسبحانه، وكفه نفسه عما يخالف ربه، تثبت له الاولوية والتقدم والبروز بين دهاة العرب، ولا يعادله من الدهاة الخمسةالمشهورين احد الا عبداللّه بن بديل وذلك لاشتراكهما في المبدا، والتزامهما بالدين الحنيف، والكف عن الهوى، والوقوفعند مضلات الفتن.
وكلامه لمالك الاشتر مالك وما مالك؟! ينم عن غزارة عقله، وحسن تدبيره، واستقامة رايه، وقوة ايمانه، وهو من غررالكلم، ودرر الحكم، رواه شيخ الطائفة في اماليه ((2-374))(ص86) في حديث طويل فقال: قال الاشتر لعلي(ع): دعني يا اميرالمؤمنين اوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك. فقال له: ((كف عني)). فانصرف الاشتر وهو مغضب! ثم ان قيس بن سعد لقي مالكا في نفر من المهاجرين والانصار، فقال: يا مالك كلما ضاقصدرك بشيء اخرجته، وكلما استبطات امرا استعجلته، ان ادب الصبر التسليم، وادب العجلة الاناة، وان شر القول ماضاهى العيب، وشر الراي ما ضاهى التهمة، فاذا ابتليت فاسال، واذا امرت فاطع، ولا تسال قبل البلاء، ولا تكلف قبلان ينزل الامر، فان في انفسنا ما في نفسك، فلا تشق على صاحبك.
ولما بويع امير المؤمنين بلغه ان معاوية قد وقف من اظهار البيعة له، وقال: ان اقرني على الشام واعمالي التي ولا نيها عثمانبايعته. فجاء المغيرة الى امير المؤمنين فقال له: يا امير المؤمنين ان معاوية من قد عرفت، وقد ولا ه الشام من كان قبلك،فوله انت كيما تتسق عرى الامور، ثم اعزله ان بدا لك. فقال امير المؤمنين: ((اتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته الى خلعه؟)). قال: لا. قال: ((لا يسالني اللّه عز وجل عنتوليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء ابدا، (وما كنت متخذ المضلين عضدا) ((2-375))، لكن ابعث اليه وادعوه الى ما فييدي من الحق، فان اجاب فرجل من المسلمين، له مالهم، وعليه ما عليهم، وان ابى حاكمته الى اللّه)). فولى المغيرة وهويقول: فحاكمه اذا، فحاكمه اذا، وانشا يقول:
نصحت عليا في ابن حرب نصيحة / فرد فما مني له الدهر ثانيه
ولم يقبل النصح الذي جئته به / وكانت له تلك النصيحة كافيه
وقالوا له ما اخلص النصح كله / فقلت له ان النصيحة غاليه
فقام قيس بن سعد فقال: يا امير المؤمنين ان المغيرة اشار عليك بامر لم يرد اللّه به، فقدم فيه رجلا واخر فيه اخرى، فانكان لك الغلبة تقرب اليك بالنصيحة، وان كانت لمعاوية تقرب اليه بالمشورة. ثم انشا يقول:
يكاد ومن ارسى ثبيرا مكانه / مغيرة ان يقوى عليك معاويه
وكنت بحمد اللّه فينا موفقا / وتلك التي ارآكها غيركافيه
فسبحان من علا السماء مكانها / وارضا دحاها فاستقرت كما هيه
فكان هو صاحب الراي الوحيد بعين الامام الطاهر، تجاه تلك الاراء التعسة الفارغة عن النزعات الروحية، في كل منحسة ومتعسة، بين حاذف وقاذف ((2-376)).