17 ابو الاسود الدولي وعمرو

  الغدير
17 ابو الاسود الدولي وعمرو

قدم ابو الاسود ((2-656)) الدولي على معاوية بعد مقتل علي(رض)، وقد استقامت لمعاوية البلاد، فادنى مجلسه، واعظم‏جائزته، فحسده عمرو بن العاص، فقدم على معاوية، فاستاذن عليه في غير وقت الاذن، فاذن له، فقال له معاوية: يا اباعبداللّه ما اعجلك قبل وقت الاذن؟ فقال: يا امير المؤمنين اتيتك لامر قد اوجعني وارقني وغاظني، وهو من بعد ذلك‏نصيحة لامير المؤمنين. قال: وما ذاك يا عمرو. قال: يا امير المؤمنين ان ابا الاسود رجل مفوه، له عقل وادب، من مثله‏للكلام يذكر؟ وقد اذاع بمصرك من الذكر لعلي والبغض لعدوه، وقد خشيت عليك ان يترى ((2-657)) في ذلك حتى يؤخذبعنقك، وقد رايت ان ترسل اليه، وترهبه، وترعبه، وتسبره، وتخبره، فانك من مسالته على احدى خبرتين، اما ان يبدي‏لك صفحته فتعرف مقالته، واما ان يستقبلك فيقول ما ليس من رايه، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح‏ ان شاء اللّه تعالى.

فقال له معاوية: اني امرو واللّه لقلما تركت رايا لراي امرى‏ء قط الا كنت فيه بين ان ارى ما اكره‏وبين بين، ولكن ان ارسلت اليه فسالته فخرج من مساءلتي بامر لا اجد عليه مقدما، ويملؤني غيظا لمعرفتي بما يريد،وان‏الامر فيه ان يقبل ما ابدى من لفظه، فليس لنا ان نشرح عن صدره وندع ما وراء ذلك يذهب جانبا. فقال عمرو: اناصاحبك يوم رفع المصاحف بصفين، وقد عرفت رايي، ولست ارى خلافي وما آلوك خيرا، فارسل اليه، ولا تفرش مهادالعجز فتتخذه وطيئا.

فارسل معاوية الى ابي الاسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا، فرحب به معاوية وقال: يا ابا الاسود خلوت اناوعمرو فتناجزنا ((2-658)) في اصحاب محمد(ص)، وقد احببت ان اكون من رايك على يقين. قال: سل يا امير المؤمنين عمابدا لك. فقال: يا ابا الاسود ايهم كان احب الى رسول اللّه(ص)؟ فقال: اشدهم حبا لرسول اللّه(ص) واوقاهم له بنفسه. فنظر معاوية الى عمرو وحرك راسه، ثم تمادى في مسالته، فقال: يا ابا الاسود فايهم كان افضلهم عندك؟ قال: اتقاهم لربه‏واشدهم خوفا لدينه. فاغتاظ معاوية على عمرو، ثم قال: يا ابا الاسود فايهم كان اعلم؟ قال: اقولهم للصواب وافصلهم للخطاب. قال: يا اباالاسود فايهم كان اشجع؟ قال: اعظمهم بلاء، واحسنهم عناء واصبرهم على اللقاء. قال: فايهم كان اوثق عنده؟ قال: من‏اوصى اليه فيما بعده. قال: فايهم كان للنبي(ص) صديقا؟ قال: اولهم به تصديقا. فاقبل معاوية على عمرو، وقال: لا جزاك اللّه خيرا، هل تستطيع ان ترد مما قال شيئا؟ فقال ابو الاسود: اني قد عرفت من اين اتيت، فهل تاذن لي فيه؟. فقال: نعم، فقل ما بدا لك. فقال: يا امير المؤمنين ان هذاالذي ترى هجا رسول اللّه(ص) بابيات من الشعر، فقال رسول(ص): ((2-اللهم اني لا احسن ان اقول الشعر، فالعن‏عمرابكل‏بيت لعنة)) افتراه بعد هذا نائلا فلاحا؟ او مدركا رباحا؟ وايم اللّه ان امرءا لم يعرف الا بسهم اجيل عليه فجال،لحقيق ان يكون كليل اللسان، ضعيف الجنان، مستشعرا للاستكانة، مقارنا للذل والمهانة، غير ولوج فيما بين الرجال، ولاناظر في تسطير المقال، ان قالت الرجال اصغى، وان قامت الكرام اقعى ((2-659))، متعيص لدينه لعظيم دينه ((2-660))، غيرناظر في ابهة الكرام ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس بالمكر والخداع، والمكر والخداع في‏النار. فقال عمرو: يا اخا بني الدول، واللّه انك لانت الذليل القليل، ولولا ما تمت به من حسب كنانة، لاختطفتك من حولك‏اختطاف الاجدل الحدية ((2-661))، غير انك بهم تطول، وبهم تصول، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا، سيصير عليك‏وبالا، وايم اللّه انك لاعدى الناس لامير المؤمنين قديما وحديثا، وما كنت قط باشد عداوة له منك الساعة، وانك لتوالي‏عدوه، وتعادي وليه، وتبغيه الغوائل، ولئن اطاعني ليقطعن عنه لسانك، وليخرجن من راسك شيطانك، فانت العدوالمطرق‏له اطراق الافعوان ((2-662)) في اصل الشجرة.

فتكلم معاوية فقال: يا ابا الاسود اغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحك. وقال لعمرو: فلم تغرق كما اغرقت، ولم تبلغ مابلغت، غير انه كان منه الابتداء والاعتداء، والباغي اظلم، والثالث احلم، فانصرفا عن هذا القول الى غيره، وقوما غيرمطرودين، فقام عمرو وهو يقول:

لعمري لقد اعيا القرون التي مضت / لغش ثوى بين الفؤاد كمين

وقام ابو الاسود وهو يقول:

الا ان عمرا رام ليث خفية ((2-663)) / وكيف ينال الذئب ليث عرين

تاريخ ابن عساكر ((2-664)) (7/104 106)