هجاؤه

  الغدير

هجاؤه

اخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجاءين، هما اشهر الهجائين في ادب العصور الاسلامية عامة، احدهما ابن الرومي،والاخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء والامراء وهاجي الناس جميعا والقائل:

اني لافتح عيني حين افتحها / على كثير ولكن لا ارى احدا

وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد، وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه، فقال:

لو انصف الدهر هجا اهله / كانه الرومي او دعبل

وليس للمؤرخ الحديث ان يضيف اسما جديدا الى هذين الاسمين، فان العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهمافي قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع هذا نوع فذ في‏الهجاء يظهر متى قرن بالاخر.

فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب … (لا يهمنا ما ذكره في دعبل) ((3-158)) .

اما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الادب، ولكنه كان‏فنانابارعا اوتي ملكة التصوير، ولطف التخيل والتوليد، وبراعة اللعب بالمعاني والاشكال، فاذا قصد شخصا او شيئابهجاءصوب اليه (مصورته) الواعية، فاذا ذلك الشخص او ذلك الشي‏ء صورة مهياة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض‏للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع الاشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لاشكاله،او لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.

وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم، ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على‏اللذات، فاذا حذفت من هجوه كل ما اوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه، ولم‏يبق منه الا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

وكان لصاحبنا فن واحد من الهجاء، لا ترتاب في انه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجئه النقمة اليه، ونعني‏به فن التصوير الهزلي والعبث بالاشكال المضحكة والمناظر الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع‏المصور على نقل ما يراه، واعطاء التصوير حقه من الاتقان والاختراع، وما نراه كان يقع عنه في شعره، ولو بطلت‏ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفن ادخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة،وقدرة‏تطلب وليس بخلة تنبذ، وانت لا يغضبك ان ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه، خبيرا بمغامزه وخوافيه، وان‏كان يغضبك ان تراه يشتم المشتوم، ويهين المهين، ويهجو من يستهدف عرضه للهجاء، لانك اذا منعته ان يفطن الى الصورالهزلية وان يفتن في ادراك معانيها وتمثيل مشابهاتها منعت ملكة فيه ان تنمو، وابيت على حاسته الصادقة فيه ان تصدقه‏وتفقه ما تقع عليه، اما اذا منعت الهجاء وبواعثه، فانك تمنع خلقا يستغنى عنه، وميلا لابد له من التقويم.

ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار، فاما ما عدا ذلك من هجائه فهو مسوق فيه لا سائق،ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الاحيان لا مستثير، وانك لتقرا له قوله:

ما استب قط اثنان الا غلبا / شرهما نفسا واما وابا

فلا تصدق ان قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف المهجوين بكل نقيصة، لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك‏انه كان يسكن الى رشده احيانا، فيسام الهجاء ويعافه ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه، ويعتزم التوبة‏عن الهجاء مقسما:

آليت لا اهجو طوا / ل الدهر الا من هجاني

لا بل ساطرح الهجا / ء وان رماني

من رماني امن الخلائق كلهم / فلياخذوا مني اماني

حلمي اعز علي من / غضبي اذا غضبي عراني

اولى بجهلي بعد ما / مكنت حلمي من عناني

وهذا اشبه بابن الرومي لانه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان‏شريرا لما اضطر الى كل هذا الهجاء، او هو لو كان اكثر شرا لكان اقل هجاء، لانه كان يامن من جانب العدوان فلا يقابله‏بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا الا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابههمامن ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولاباتقائه، وكثير من الاشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الارض، يقضون الحياة دون ان تسمع منهم كلمة ذم في‏انسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون لانهم على ذلك مطبوعون.

ومن قرا مراثي ابن الرومي في اولاده، وامه، واخيه، وزوجته، وخالته، وبعض اصدقائه، علم منها انها مراثي رجل مفطورعلى الحنان ورعاية الرحم والانس بالاصدقاء و الاخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي‏كان يمليها الطمع والرغبة، او اهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس. ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة‏الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والاخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب‏ الرؤوف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد، مطبوعا على الكيد والايذاء.

واذا اختلف القولان بينه وبين ابناء عصره فاحجى بنا ان نصدق كلامه هو في ابناء عصره قبل ان نصدق كلامهم فيه،لانهم كانوا يستبيحون ايذاءه، ويستسهلون الكذب عليه لغرابة اطواره، وتعود الناس ان يصدقوا كل ما يرمى به غريب‏الاطوار من التهم والاعاجيب، في حين انه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة‏الشكاية وعلما منه بقلة الانصاف:

اتاني مقال من اخ فاغتفرته / وان كان فيما دونه وجه معتب

وذكرت نفسي منه عند امتعاضها / محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب

ومثلي راى الحسنى بعين جلية / واغضى عن العوراء غير مؤنب

فيا هاربا من سخطنا متنصلا / هربت الى انجى مفر ومهرب

فعذرك مبسوط لدينا مقدم / وودك مقبول باهل ومرحب

ولو بلغتني عنك اذني اقمتها / لدي مقام الكاشح المتكذب

ولست بتقليب اللسان مصارما / خليلي اذا ما القلب لم يتقلب

فالرجل لم يكن شريرا، ولا ردي‏ء النفس، ولا سريعا الى النقمة، فلماذا اذن كثر هجاؤه، واشتد وقوعه في اعراض‏مهجويه؟ نظن انه كان كذلك لانه كان قليل الحيلة، طيب السريرة، خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة، وما شابه هذه‏الخلائق من ادوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب ان الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه‏وارتقائه الى مراتب الوزارة والرئاسة، لانه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة، ويجمعون في مناصبهم الوف‏الالوف، ويحظون بالزلفى عند الامراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع الرواية، مشاركا في المنطق‏والفلك واللغة، وكل ماتدور عليه ثقافة زمان، او كما قال المسعودي: كان الشعر اقل ادواته. وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الامال، فماذا بعد ان يعرف الناس انه شاعر، وانه كاتب، وانه راوية مطلع على‏الفلسفة والنجوم الا ان تجيئه الوزارة ساعية اليه تخطب وده، كما جاءت الى اناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في‏البلاغة مكانه؟! الم يصل ابن الزيات الى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها، وهي كلمة الكلا التي‏يعرفها عامة الادباء؟ بلى، وابن الرومي كان يعرف من غرائب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا ادباؤه، فما اولاه‏اذن بالوزارة! وما اظلم الدنيا ان هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء!

فاذا لم تكن الوزارة، فهل اقل من الكتابة او العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين؟ فاذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهل‏غبن‏اصعب على النفس من هذا الغبن؟ وهل تقصير من الزمان الام من هذا التقصير؟!

نبوءة ابيه ورجاؤه في مستقبله وقوله: انت للشرف، ايذهب هذا كله هباء لايقبض منه اليدين على شي‏ء؟ تلك النبوءات‏التي تنطبع على افئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة واحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضميراغوارها، اياتي الشباب وهي محو لغو مطموس لايبين، اولا يبين منه الا ما ينقلب الى الاضداد، وتترجمه الايام بالسقم‏والفقر والكساد؟ وكيف يمحى الا وقد محي القلب الذي طبعت فيه؟ وكيف ينعكس معناه الا وقد انعكس في القلب كل‏قائم والتوى فيه كل قويم؟ ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل، الا على من يلهو به وهو بعيد.

وهكذا كان ابن الرومي يسال نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:

ما لي اسل من القراب واغمد / لم لا اجرد والسيوف تجرد

لم لا اجرب في الضرائب مرة / يا للرجال وانني لمهند

ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لانه لم يكن يدري ان فضائله كلها لاتساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم باساليب‏الدخول بين الناس، وان الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب ‏الفلسفة والرواية والنجوم.

حسن، اذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد ياس مضيض يسهل علينا هنا ان نسطره في كلمة عابرة، ولكنه لايسهل‏على من يعالجه ويشقى بمحنته في كل ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة، ونقنع بالمثوبة من الوزراءوالولاة والعمال، ان كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟

لا! لان الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من اغراض المعاش، ولا سيما في ذلك الزمان‏الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيثة تودي بحياة خليفة، او امير، اووزير، وربما كانت مصانعة الحجاب، والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان، واللعب بمغامز النفوس الخفية،واضحاك هؤلاء وهؤلاء، اجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

وبسط الكلام في الموضوع الى (ص‏235) فقال:

LEAVE A COMMENT