كتاب مفتعل

  الغدير
كتاب مفتعل :

فلما ايس معاوية من قيس ان يتابعه على امره، شق عليه ذلك، وثقل عليه مكانه، لما كان يعرف من حزمه وباسه، ولم‏تنجح حيلة فيه تكاده من قبل علي، فقال لاهل الشام: ان قيسا قد تابعكم فادعوا اللّه له ولا تسبوه، ولا تدعوا الى غزوه،فانه لنا شيعة، قد تاتينا كتبه ونصيحته سرا، الا ترون مايفعل باخوانكم الذين عنده من اهل خربتا يجري عليهم‏عطاياهم وارزاقهم ويحسن اليهم. واختلق كتابا ونسبه الى قيس، فقراه على اهل الشام وهو:

بسم اللّه الرحمن الرحيم. للامير معاوية بن ابي سفيان من قيس بن سعد: سلام عليك، فاني احمد اليكم اللّه الذي لا اله الا هو، اما بعد: فاني لما نظرت لنفسي وديني فلم ار يسعني مظاهرة قوم قتلوا امامهم مسلما محرما برا تقيا، فنستغفر اللّه غ لذنوبنا،ونساله العصمة لديننا، الا واني قد القيت اليكم بالسلم، واني اجبتك الى قتال قتلة عثمان(رض) امام الهدى المظلوم، فعول‏علي فيما احببت من الاموال والرجال، اعجل عليك. والسلام ((2-476)).

ان شنشنة التقول والافتعال غريزة ثابتة في سجايا معاوية، ومنذ عهده شاعت الاحاديث المزورة فيما يعنيه من فضل بني‏امية، والوقيعة في بني هاشم، عترة الوحي وانصاره، يوم كان يهب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لاهل الجباه‏السود، فيضعون له في ذلك روايات معزوة الى صاحب الرسالة(ص)، فانه بذل لسمرة بن جندب مائة الف درهم ليروي‏ان قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه) ((2-477)) نزل في ابن ملجم اشقى مراد. وقوله تعالى:(ومن‏ الناس من يعجبك قوله في‏ الحياة الدنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو الد الخصام) ((2-478)) الاية. نزل في علي اميرالمؤمنين. فلم يقبل، فبذل له مائتي الف درهم فلم يقبل، فبذل له اربعمائة الف درهم فقبل ((2-479))، وله من نظائر هذا شي‏ء كثير .

فليس من البدع اختلاقه على قيس، وهو يفتعل على سيده النبي الاطهر مالم يقله، وعلى امير المؤمنين مالم يكن، وعلى‏سروات المجد من بني هاشم الاطيبين ماهم عنه بعداء. فهو مبتدع هذه الخزايات العائدة عليه و على لفيفه في عهد ملوكيته‏المظلم، وعلى هذا كان دينه و ديدنه، ثم تمرنت رواة السوء من بعده على رواية الموضوعات، وشاعت وكثرت، الى ان‏القت العلماء وحفظة الحديث في جهود متعبة بالتاليف، في تمييز الموضوع من غيره، والخبيث من الطيب.

لم يزل معاوية دائبا على ذلك متهالكا فيه، حتى كبر عليه الصغير، وشاخ الكهل، وهرم الكبير، فتداخل بغض اهل‏البيت(ع) في قلوب ران عليها ذلك التمويه ، فتسنى له لعن امير المؤمنين (ع) وسبه في اعقاب الصلوات في الجمعة‏والجماعات! وعلى صهوات المنابر في شرق الارض و غربها، حتى في مهبط وحي‏اللّه المدينة المنورة. قال الحموي في معجم البلدان ((2-480)) (5/38): لعن علي بن ابي طالب(رض) على منابر الشرق والغرب، ولم يلعن على منبرسجستان الا مرة، وامتنعوا على بني امية حتى زادوا في عهدهم: وان لايلعن على منبرهم احد. واي شرف اعظم من‏امتناعهم من لعن اخي رسول اللّه(ص) على منبرهم، وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة. انتهى.

لما مات الحسن بن علي(ع) حج معاوية فدخل المدينة، واراد ان يلعن عليا على منبر رسول اللّه(ص) فقيل له: ان هاهناسعد بن ابي وقاص، ولا نراه يرضى بهذا، فابعث اليه وخذ رايه. فارسل اليه وذكر له ذلك فقال: ان فعلت لاخرجن من‏المسجد، ثم لا اعود اليه. فامسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد، فلما مات لعنه على المنبر، وكتب الى عماله: ان يلعنوه‏على المنابر. ففعلوا. فكتبت ام سلمة زوج النبي(ص) الى معاوية: انكم تلعنون اللّه ورسوله على منابركم! و ذلك انكم تلعنون علي بن ابي‏طالب ومن احبه، وانا اشهد ان اللّه احبه ورسوله. فلم يلتفت الى كلامها ((2-481)).

قال الجاحظ في كتاب الرد على الامامية: ان معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم ان ابا تراب الحد في دينك، وصد عن‏سبيلك، فالعنه لعنا وبيلا، وعذبه عذابا اليما. وكتب بذلك الى الافاق، فكانت هذه الكلمات يشادبها على المنابر الى ايام‏عمر ابن عبد العزيز. وان قوما من بني امية قالوا لمعاوية: يا امير المؤمنين انك قد بلغت ما املت، فلو كففت عن هذاالرجل. فقال: لا واللّه حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولايذكر له ذاكر فضلا.

وذكره ابن ابي الحديد في ‏شرحه ((2-482)) (1/356).

قال الزمخشري في ربيع الابرار ((2-483)) على مايعلق بالخاطر والحافظ السيوط‏ي: انه كان في ايام بني امية اكثر من‏سبعين الف منبر، يلعن عليها علي بن ابي طالب، بما سنه لهم معاوية من ذلك. وفي ذلك يقول العلامة الشيخ احمد الحفظ‏ي ‏الشافعي في ارجوزته:

وقد حكى ‏الشيخ السيوط‏ي انه / قد كان فيما جعلوه سنه

سبعون الف منبر وعشره / من فوقهن يلعنون حيدره

وهذه في جنبها العظائم / تصغر بل توجه اللوائم

فهل ترى من سنها يعادى / ام لا وهل يستر او يهادى

او عالم يقول عنه نسكت / اجب فاني للجواب منصت

وليت شعري هل يقال اجتهدا / كقولهم في بغيه ام الحدا

اليس ذا يؤذيه ام لا فاسمعن / ان الذي يؤذيه من ومن ومن

بل جاء في حديث ام سلمه / هل فيكم‏اللّه يسب مه لمه

عاون اخا العرفان بالجواب / وعاد من عادى ابا تراب

وكان امير المؤمنين يخبر بذلك كله ويقول: ((2-اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن ((2-484)) ياكل‏ما يجد، ويطلب مالا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، الا وانه سيامر كم بسبي والبراءة مني)). نهج البلاغة ((2-485)).

ونحن لو بسطنا القول في المقام، لخرج الكتاب عن وضعه، اذ صحائف تاريخ معاوية السوداء ومن لف لفه من بني امية، انما تعد بالالاف لا بالعشرات والمئات.