الكميت وهشام بن عبد الملك

  الغدير
الكميت وهشام بن عبد الملك

كان خالد بن عبداللّه القسري قد انشد قصيدة الكميت التي يهجو فيها اليمن، وهي التي اولها:

الا حييت عنا يا مدينا / وهل ناس تقول مسلمينا

فقال: واللّه لاقتلنه. ثم اشترى ثلاثين جارية باغلى ثمن، وتخيرهن نهاية في الحسن والكمال والادب، فرواهن الهاشميات،ودسهن مع نخاس الى هشام بن عبدالملك فاشتراهن جميعا، فلما انس بهن واستنطقهن، راى منهن فصاحة وادبا،فاستقراهن القرآن فقران، واستنشدهن الشعر فانشدن قصائد الكميت الهاشميات فقال هشام: ويلكن من قائل هذاالشعر؟ قلن: الكميت بن زيد الاسدي. قال: في اي بلد هو؟ قلن: بالعراق ثم بالكوفة. فكتب الى خالد عامله في العراق: ابعث الي براس الكميت بن زيد. فلم يشعر الكميت الا والخيل محدقة بداره، فاخذوحبس في الحبس. وكان ابان بن الوليد عاملا على واسط، وكان الكميت صديقه، فبعث اليه بغلام على بغل، وقال له: انت حر ان لحقته‏والبغل لك. وكتب له: اما بعد: فقد بلغني ما صرت اليه وهو القتل، الا ان يدفع اللّه غ، وارى لك ان تبعث الى حبى يعني زوجة الكميت‏وكانت ممن تتشيع ايضا فاذا دخلت عليك، تنقبت نقابها، ولبست ثيابها وخرجت، فاني ارجو الاوبة لك. قال: فركب الغلام البغل، وسار بقية يومه وليلته من واسط الى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكرا، واخبر الكميت‏بالقصة، فبعث الى امراته وقص عليها القصة، وقال لها: اي ابنة عم ان الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك، ولوخفت‏عليك ما عرضت ك له. فالبسته ثيابها وازارها وخمرته، وقالت له: اقبل وادبر، ففعل، فقالت: ما انكر منك شيئا الا يبسا في كتفيك، فاخرج على اسم اللّه تعالى. واخرجت معه جاريتين لها. فخرج وعلى باب السجن ابو الوضاح حبيب بن بدير ومعه فتيان من اسد فلم يؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه الى سكة‏شبيب بناحية الكناس، فمر بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل ورب الكعبة، وامر غلامه فاتبعه، فصاح به‏ابو الوضاح يا كذا وكذا اراك تتبع هذه المراة منذ اليوم، واوما اليه بنعله فولى العبد مدبرا، وادخله ابو الوضاح منزله. ولما طال على السجان الامر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المراة: وراءك، لا ام لك. فشق ثوبه‏ومضى صارخا الى باب خالد، فاخبر الخبر، فاحضر المراة، فقال لها: يا عدوة اللّه احتلت على امير المؤمنين‏واخرجت‏عدو امير المؤمنين، لانك لن بك، ولاصنعن، ولافعلن. فاجتمعت بنو اسد عليه، وقالوا له: ما سبيلك على امراة‏منا خدعت. فخافهم، فخلى سبيلها. وسقط غراب على الحائط ونعب، فقال الكميت لابي الوضاح: اني لماخوذ، وان حائطك لساقط. فقال: سبحان اللّه! هذا مالايكون ان شاء اللّه تعالى، وكان الكميت خبيرا بالزجر الكهانة فقال له: لابد ان تحولني. فخرج به الى بني علقمة آوكانوا يتشيعون فاقام فيهم، ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب.

قال المستهل: واقام الكميت مدة متواريا، حتى اذا ايقن ان الطلب خف عنه، خرج ليلا في جماعة من بني اسد وبني تميم،وارسل الى اشراف قريش، وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشت رجالات قريش بعضها الى بعض‏واتوا عنبسة فقالوا: يا ابا خالد هذه مكرمة اتاك بها اللّه تعالى، هذا الكميت بن زيد لسان مضر، وكان امير المؤمنين قدكتب في قتله، فنجا حتى تخلص اليك والينا. قال: فمروه ان يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير حنيناء. فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فاتى مسلمة بن هشام، فقال: يا ابا شاكر مكرمة اتيتك بها تبلغ‏الثريا ان اعتقدتها، فان علمت انك تفي بها والا كتمتها. قال: وما هي؟ فاخبره الخبر، وقال: انه قد مدحكم عامة واياك‏خاصة بما لم يسمع بمثله، فقال: علي خلاصه. فدخل على ابيه هشام وهو عند امه في غير وقت دخول، فقال له هشام: اجئت لحاجة؟ قال: نعم. قال: هي مقضية الا ان‏تكون الكميت. فقال: ما احب ان تستثني علي في حاجتي، وما انا والكميت! فقالت امه: واللّه لتقضين حاجته كائنة ماكانت، قال: قد قضيتها ولو احاطت بما بين قطريها. قال: «هي الكميت‏» ((2-901)) يا امير المؤمنين! وهو آمن بامان اللّه غ‏واماني، وهو شاعر مضر، وقد قال فينا قولا لم يقل مثله. قال: قد امنته، واجزت امانك له، فاجلس له مجلسا ينشدك فيه‏ما قال فينا، فعقد مجلسا وعنده الابرش الكلبي، فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلهاقط، وامتدحه بقصيدته الرائية، ويقال:انه قالها ارتجالا، وهي قوله:

قف بالديار وقوف زائر

فمضى فيها حتى انتهى الى قوله:

ماذا عليك من الوقو / ف بها وانك غير صاغر

درجت عليك الغاديا / ت الرائحات من الاعاصر

ويقول فيها:

فالان صرت الى امي / ة والامور الى المصائر

فجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول: اسمع، اسمع. ثم استاذنه في مرثية ابنه معاوية، فاذن له فيها، فانشده قوله: سابكيك للدنيا وللدين انني رايت يد المعروف بعدك شلت ادامت عليكم بالسلام تحية ملائكة اللّه الكرام وصلت فبكى هشام بكاء شديدا، فوثب الحاجب فسكته. ثم جاء الكميت الى منزله آمنا، فحشدت له المضرية بالهدايا، وامر له مسلمة بعشرين الف درهم، وامر له هشام باربعين‏الف درهم، وكتب الى خالد بامانه وامان اهل بيته، وانه لا سلطان له عليهم. قال: وجمعت له بنو امية فيما بينها مالا كثيرا،ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ الا ما حفظه الناس منها فالف، وسئل عنها فقال: ما احفظ منها شيئا، انما هو كلام ‏ارتجلته.

وفي رواية: انه لما اجاره مسلمة بن هشام وبلغ ذلك هشاما، دعا به، وقال له: اتجير على امير المؤمنين بغير امره؟ فقال:كلا ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: احضرنيه الساعة فانه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: يا ابا المستهل ان اميرالمؤمنين قد امرني باحضارك. قال: اتسلمني يا ابا شاكر؟ قال: كلا ، ولكني احتال لك، ثم قال له: ان معاوية بن هشام مات‏قريبا، وقد جزع عليه جزعا شديدا، فاذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وانا ابعث اليك بنيه يكونون معك في‏الرواق، فاذا دعا بك تقدمت اليهم ان يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولون: هذا استجار بقبر ابينا ونحن احق باجارته. فاصبح هشام على عادته متطلعا من قصره الى القبر، فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان الا الكميت، فانه لا جوار له. فقيل فانه الكميت. فقال: يحضر اعنف احضار. فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلما نظر هشام اليهم اغرورقت عيناه واستعبر، وهم يقولون: يا امير المؤمنين‏استجار بقبر ابينا وقد مات ومات حظه من الدنيا، فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا في من استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم اقبل على الكميت فقال له: يا كميت انت القائل:

والا فقولوا غيرها تتعرفوا / نواصيها تروى بنا وهي شزب ((2-902))

فقال: لا واللّه، ولا اتان من اتن الحجاز وحشية. فقال الكميت: الحمد للّه. قال هشام: نعم الحمد للّه، ما هذا؟ قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وامر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره،وكلام اهل جنته، احمد حمد من علم يقينا، وابصر مستبينا، واشهد له بما شهد لنفسه، قائما بالقسط وحده لا شريك له،واشهد ان محمدا عبده العربي، ورسوله الامي، ارسله والناس في هفوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار ابهة‏الضلال، فبلغ عن اللّه ما امر به، ونصح لامته، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى اتاه اليقين(ص). ثم تكلم واعتذر عن‏هجائه بني امية، وانشد ابياتا من رائيته في مدحهم. فقال له هشام: ويلك يا كميت من زين لك الغواية، ودلا ك في العماية؟ قال: الذي اخرج ابانا من الجنة، وانساه العهد فلم‏يجد له عزما. فقال له: ايه يا كميت الست القائل؟:

فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها / ويا حاطبا في غير حبلك تحطب

فقال: بل انا القائل:

الى آل بيت ابي مالك / مناخ هو الارحب الاسهل

نمت بارحامنا الداخلا / ت من حيث لا ينكر المدخل

بمرة والنضر والمالكين / رهط هم الانبل الانبل

وجدنا قريشا قريش البطاح‏ / على ما بنى الاول الاول

بهم اصلح اللّه بعد الفساد / وحيص من الفتق ما رعبلوا ((2-903))

قال له: وانت القائل:

لا كعبد المليك او كوليد / او سليمان بعد او كهشام

من يمت لا يمت فقيدا ومن يح / ي فلا ذو ال ولا ذو ذمام

ويلك يا كميت جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن الا ولا ذمة. فقال: بل انا القائل يا امير المؤمنين:

فالان صرت الى امي / ة والامور الى المصائر

والان صرت بها الى المصي / ب كمهتد بالامس حائر

فقال: ايه فانت القائل:

فقل لبني امية حيث حلوا / وان خفت المهند والقطيعا

اجاع اللّه من اشبعتموه / واشبع من بجوركم اجيعا

بمرضي السياسة هاشمي / يكون حيا لامته ربيعا

فقال: لا تثريب يا امير المؤمنين ان رايت ان تمحو عني قولي الكاذب. قال: بماذا؟ قال: بقولي الصادق:

اورثته الحصان ام هشام / حسبا ثاقبا ووجها نضيرا

وتعاط‏ى به ابن عائشة البد / ر فامسى له رقيبا نظيرا

وكساه ابو الخلائف مروا / ن سناء المكارم الماثورا

لم تجهم ((2-904)) له البطاح ولكن / وجدتها له معانا ((2-905)) ودورا

وكان هشام متكئا فاستوى جالسا، وقال: هكذا فليكن الشعر. يقولها لسالم ابن عبد اللّه بن عمر وكان الى جانبه. ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت! فقبل يده وقال: يا امير المؤمنين ان رايت ان تزيد في تشريفي فلا تجعل لخالد علي‏امارة.قال: قد فعلت، وكتب بذلك. وامر له باربعين الف درهم وثلاثين ثوبا هشامية، وكتب الى خالد: ان يخلي سبيل امراته،ويعطيها عشرين الف درهم وثلاثين ثوبا. ففعل ذلك.

الاغاني ((2-906)) (15/115 119)، العقد الفريد ((2-907)) (1/189).

كان هشام بن عبدالملك مشغوفا بجارية له يقال لها صدوف مدنية، اشتريت له بمال جزيل، فعتب عليها ذات يوم في شي‏ءوهجرها، وحلف ان لا يبداها بكلام، فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك، فقال: مالي اراك مغموما يا امير المؤمنين لاغمك اللّه؟ فاخبره هشام بالقصة، فاطرق الكميت ساعة، ثم انشا يقول:

اعتبت ام عتبت عليك صدوف / وعتاب مثلك مثلها تشريف

لا تقعدن تلوم نفسك دائبا / فيها وانت بحبها مشغوف

ان الصريمة لا يقوم بثقلها / الا القوي بها وانت ضعيف

فقال هشام: صدقت واللّه، ونهض من مجلسه فدخل اليها، ونهضت اليه فاعتنقته، وانصرف الكميت، فبعث اليه هشام بالف‏دينار، وبعثت اليه بمثلها.

الاغاني ((2-908)) (15/122)