الكميت ودعاء الائمة له

  الغدير
الكميت ودعاء الائمة له

من الواضح ان ادعية ذوي النفوس القدسية، والالسنة الناطقة بالمشيئة الالهية المعبرة عن اللّه، من الذين يوحي اليهم‏ربهم، ولا يتكلمون الا باذنه، وما ينطقون عن الهوى، ولا يشفعون الا لمن ارتضى، ليست مجرد شفاعة لاي احد، ومسالة‏خير من المولى لكل انسان كائنا من كان، بل فيها ايعاز بان المدعو له من رجال الدين، وحلفاء الخير والصلاح، ودعاة‏الامة اليهما، وممن قيضه المولى للدعوة اليه، والاخذ بناصر الهدى، رغما على اباطيل الحياة واهوائها الضالة، الى فضائل لاتحصى على اختلاف المدعو لهم فيها.

وقلما دعي لاحد مثلما دعي للكميت، وقد اكثر النبي الاعظم والائمة من اولاده صلوات اللّه عليه وعليهم دعاءهم له،فاسترحم له النبي(ص) مرة كما مر في حديث البياضي، واستجزى له بالخير، واثنى عليه اخرى كما في منام نصر بن‏مزاحم، وقال له ثالثة: ((بوركت وبورك قومك)) كما في حديث السيوط‏ي، ودعا له الامام السجاد زين العابدين(ع) بقوله: ((اللهم احيه سعيدا وامته شهيدا، واره الجزاء عاجلا، واجزل له جزيل المثوبة آجلا)). ودعا له ابو جعفر الباقر(ع) في‏مواقف شتى في مثل ايام التشريق بمنى وغيرها، متوجها الى الكعبة بالاسترحام والاستغفار له غير مرة، وبقوله: ((لا تزال‏مؤيدا بروح القدس)) تارة اخرى، ومن دعائه(ع) له في ايام البيض ما رواه الشيخ الاقدم ابو القاسم الخزاز القمي في كفاية‏الاثر في النصوص على الائمة الاثني عشر ((2-895)) باسناده عن الكميت، انه قال: دخلت على سيدي ابي جعفر محمد بن‏علي الباقر، فقلت: ياابن رسول اللّه اني قد قلت فيكم ابياتا، افتاذن لي في انشادها؟ فقال: ((«انها» ((2-896)) ايام البيض)). قلت: فهو فيكم خاصة. قال: ((هات)). فانشات اقول:

اضحكني الدهر وابكاني / والدهر ذو صرف والوان

لتسعة بالطف قد غودروا / صاروا جميعا رهن اكفان

فبكى(ع)، وبكى ابو عبداللّه(ع)، وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء، فلما بلغت الى قولي:

وستة لا يتجارى بهم / بنو عقيل خير فرسان

ثم علي الخير مولاهم / ذكرهم هيج احزاني

فبكى، ثم قال(ع): ((ما من رجل ذكرنا او ذكرنا عنده يخرج من عينيه ماء ولو مثل جناح البعوضة الا بنى اللّه له بيتا في‏الجنة، وجعل ذلك الدمع حجابا بينه وبين النار)). فلما بلغت الى قولي:

من كان مسرورا بما مسكم / او شامتا يوما من الان

فقد ذللتم بعد عز فما / ادفع ضيما حين يغشاني

اخذ بيدي ثم قال: ((اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تاخر)). فلما بلغت الى قولي:

متى يقوم الحق فيكم متى / يقوم مهديكم الثاني

قال: ((سريعا ان شاء اللّه سريعا)). ثم قال: ((يا ابا المستهل ان قائمنا هو التاسع من ولد الحسين، لان الائمة بعد رسول اللّهاثنا عشر، الثاني عشر هو القائم)). قلت: يا سيدي فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال: ((اولهم علي بن ابي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين علي بن‏الحسين، وبعده انا، ثم بعدي هذا، ووضع يده على كتف جعفر)). قلت: فمن بعد هذا؟ قال: ((ابنه موسى، وبعد موسى ابنه علي، وبعد علي ابنه محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وهو ابو القائم‏الذي يخرج فيملا الدنيا قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، ويشفي صدور شيعتنا)). قلت: فمتى يخرج يا ابن رسول اللّه؟قال: ((لقد سئل رسول اللّه(ص) عن ذلك فقال: انما مثله كمثل الساعة لا تاتيكم الا بغتة)).

وناهيك به فضلا دعاء الامام الصادق(ع) له في مواقفه المشهودة في اشرف الايام رافعا يديه قائلا: ((اللهم اغفر للكميت ماقدم واخر، وما اسر واعلن، واعطه حتى يرضى)). وينم عن اجابة تلك الادعية الصالحة، الصادرة من النفوس الطاهرة‏بالالسنة الصادقة، امر النبي(ص) ابا ابراهيم سعد الاسدي في منامه بقراءة سلامه عليه، وانبائه بان اللّه قد غفر له. وكذلك‏نهيه(ص) دعبل الخزاعي في الطيف عن معارضة الكميت، وقوله له: ان اللّه قد غفر له. وكان بنو اسد قبيلة الكميت آيحسون بركة دعاء النبي له ولهم بقوله: ((بوركت وبورك قومك)). ويشاهدون آثار الاجابة فيهم، ويجدون في انفسهم‏نفحاتها، وكانوا يقولون: ان فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منا الا وفيه بركة وراثة الكميت ((2-897)).

ومن تلك الادعية المستجابة التي شوهدت آثارها، وابقت للكميت فضيلة مع الابد، ما رواه شيخنا قطب الدين الراوندي‏في الخرائج والجرائح ((2-898)): ان محمد بن علي الباقر(ع) دعا للكميت لما اراد اعداء آل محمد اخذه وهلاكه وكان متواريا،فخرج في ظلمة الليل هاربا، وقد اقعدوا على كل طريق جماعة لياخذوه اذا ما خرج في خفية، فلما وصل الكميت الى‏الفضاء واراد ان يسلك طريقا جاء اسد يمنعه من ان يسري منها، فسلك جانبا آخر فمنعه منه ايضا، كانه اشار الى الكميت‏ان يسلك خلفه، ومضى الاسد في جانب الكميت، الى ان امن وتخلص من الاعداء.

وفي معاهد التنصيص ((2-899)) (2/28): قال المستهل: اقام الكميت مدة متواريا، حتى اذا ايقن ان الطلب خف عنه خرج‏ليلافي جماعة من بني اسد على خوف ووجل، وفيمن معه صاعد غلامه، واخذ الطريق على القطقطانة، وكان عالما بالنجوم‏مهتديا بها، فلما صار سحيرا صاح بنا: هوموا ((2-900)) يافتيان. فهومنا، وقام فصلى. قال المستهل: فراينا شخصا،فتضعضعت له. فقال: ما لك؟ قلت: ارى شخصا مقبلا. فنظر اليه، فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض‏ناحية، فاطعمناه يد جزور فتعرقها، ثم اهوينا له باناء فيه ماء فشرب منه، فارتحلنا، وجعل الذئب يعوي، فقال الكميت:ماله ويله، الم نطعمه ونسقه؟! وما اعرفني بما يريد، هو يدلنا انا لسنا على الطريق! تيامنوا يا فتيان. فتيامنا، فسكن عواؤه،فلم نزل نسير حتى جئنا الشام، فتوارى في بني اسد وبني تميم.

وهذا جانب عظيم من نواحي مكرمات الكميت وفضائله، لو اضيف الى ما يظهر من كلماته المعربة عن نفسياته، ومواقفه‏الكاشفة عن خلائقه الكريمة، وما قيل فيه وفي مثره الجمة يمثله بين يدي القارئ بمظاهر روحياته، ونصب عينيه مجالي‏نفسياته، وامثلة مكارم اخلاقه، وما كان يحمله بين جنبيه من العلم، والفقه، والادب، والاباء، والشمم، والحماسة، والهمة،واللباقة، والفصاحة، والبلاغة، والخلق الكامل، وقوة القلب، والدين الخالص، والتشيع الصحيح، والصلاح المحض، والرشدوالسداد، الى فضائل تكسبه فوز النشاتين لا تحصى.