الشعر والشعراء

  الغدير

الشعر والشعراء

ونحن لا نرى شعر السلف الصالح مجرد الفاظ مسبوكة في بوتقة النظم، او كلمات منضدة على اسلاك القريض فحسب، بل‏نحن نتلقاه بما هناك من الابحاث الراقية في المعارف من علمي الكتاب والسنة، الى دروس عالية من الفلسفة والعبروالموعظة الحسنة والاخلاق، اضف اليها ما فيه من فنون الادب ومواد اللغة ومباني التاريخ، فالشعر الحافل بهذه النواحي‏بغية العالم، ومقصد الحكيم، ومارب الاخلاقي، وطلبة الاديب، وامنية المؤرخ، وقل: مرمى المجتمع البشري اجمع.

وهناك للشعر المذهبي مرب اخرى هي من اهم ما نجده في شعر السلف، الا وهي الحجاج في المذهب والدعوة الى الحق،وبث فضائل آل اللّه، ونشر روحيات العترة الطاهرة في المجتمع، بصورة خلا بة، واسلوب بديع يمازج الارواح، ويخالط‏الادمغة، فيبلغ هتافه القاصي والداني، وتلوكه اشداق الموالي والمناوئ مهما علت في الكون عقيرته، ودوخت الارجاءشهرته، وشاع وذاع وطار صيته في الاقطار، وقرطت به الاذان.

مهما صار احدوة تحدو بها الحداة، واغاني تغني به الجواري في اندية الملوك والخلفاء والامراء، وتناغي بها الامهات الرضع‏في المهود، ويرقصنهم بها بعد الفطام في الحجور، ويلقنها الاباء اولادهم على حين نعومة الاظفار، فينمو ويشب وفي‏صفحة قلبه اسطر نورية من الولاء المحض بسبب تلك الاهازيج، وهذه الناحية الفارغة اليوم لا تسدها خطابة‏اي‏مفوه لسن، ولا تلحقه دعاية اي متكلم، كما يقصر دون ادراكها السيف والقلم.

وانت تجد تاثير الشعر الرائق في نفسيتك فوق اي دعاية وتبليغ، فاي احد يتلو ميمية الفرزدق فلا يكاد ان يطير شوقاالى‏الممدوح وحبا له ؟ او ينشد هاشميات الكميت فلا يمتلئ حجاجا للحق؟ او يترنم بعينية الحميري فلا يعلم ان الحق‏يدورعلى الممدوح بها؟ او تلقى عليه تائية دعبل فلا يستاء لاضطهاد اهل الحق؟ او تصك سمعه ميمية الامير ابي فراس فلاتقف شعرات جلدته؟ ثم لا يجد كل عضو منه يخاطب القوم بقوله:

يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم / لعصبة بيعهم يوم الهياج دم

وكم وكم لهذه من اشباه ونظائر في شعراء اكابر الشيعة، وسوف تقف عليها في طيات اجزاء كتابنا هذا ان شاء اللّه تعالى.

وبهذه الغاية المهمة كان الشعر في القرون الاولى مدحا وهجاء ورثاء كالصارم المسلول بيد موالي ائمة الدين، وسهمامغرقافي اكباد اعداء اللّه، ومجلة دعاية الى ولاء آل اللّه في كل صقع وناحية، وكانوا صلوات اللّه عليهم يضحون دونه‏بثروة طائلة، ويبذلون من مال اللّه للشعراء ما يغنيهم عن التكسب والاشتغال بغير هذه المهمة، وكانوا يوجهون الشعراءالى هذه الناحية، ويحتفظون بها بكل حول وطول، ويحرضون الناس عليها، ويبشرونهم عن اللّه وهم امناء وحيه بمثل ‏قولهم: ((من قال فينا بيت شعر بنى اللّه له بيتا في الجنة)). ويحثونهم على تعلم ما قيل فيهم وحفظه، بمثل قول الصادق الامين (ع):((علموا اولادكم شعر العبدي)). وقوله: ((ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس)) ((2-1)). وروى الكشي في رجاله ((2-2)) (ص‏160) عن ابي طالب القمي، قال: كتبت الى ابي‏جعفر بابيات شعر وذكرت فيها اباه،وسالته ان ياذن لي في ان اقول فيه، فقطع الشعر وحبسه، وكتب في صدر ما بقي من القرطاس: ((قد احسنت، فجزاك اللّه خيرا)). وعنه في لفظ آخر: فاذن لي ان ارثي ابا الحسن اعني اباه وكتب الي: ((ان اندبه واندب‏لي)).